المجلس السادس
ليلة الأربعاء28 رجب 1345 هجرية
قبل غروب الشمس جاءني إلى البيت حضرة الفاضل غلام إمامين، وكان تاجراً محترماً من أهل السنة، وهو رجل كيس ورزين، كان يحضر مجلس الحوار في كل ليلة.
جاءني وقال: أيها السيد الجليل إنما جئت في هذا الوقت وقبل مجيء رفاقي، لأخبرك بأنك كسبت قلوبنا ونورتها بكلامك الحلو وبيانك العذب، فانجذب أكثر الحاضرين نحوك، فقد كشفت لنا ما كان مستورا وبينت لنا الحق الذي كان مجهولا.
واعلم أننا حين انصرفنا في الليلة الماضية من المجلس، وقع اختلاف شديد بيننا وبين علمائنا وعاتبناهم عتابا شديدا على إخفائهم هذه الحقائق عنا وإغوائنا بالأكاذيب والأباطيل، وكاد الأمر يؤول من التشاجر إلى التناحر، ولكن بعض العقلاء والكبار توسطوا في البين وأنهوا القضية بسلام.
ولما صار وقت المغرب تهيأت وقمت للصلاة، واقتدى بي كل من كان في البيت، وصلى غلام إمامين أيضا معنا جماعة.
وبعد إتمامنا الصلاة، جاء العلماء ومعهم الأصحاب والرفاق، فأكرمهم صاحب البيت ورحب بهم ورحبت بهم بدوري، وبعدما شربوا الشاي وتناولوا الحلوى ، وجه الأستاذ نواب عبد القيوم خان نظره إلي واستأذن للسؤال، فأذنت له.
فقال: نسألكم أن تتموا موضوع الليلة الماضية حول الآية الكريمة : (محمد رسول الله والذين معه...)
قلت: إذا أذن لي المشايخ الحاضرون، فلا مانع لدي.
الحافظ ـوكان في حالة غضب ـ: لا مانع... تكلموا ونحن نستمع.
قلت: لقد بينت لكم في الليلة الماضية بعض الإشكالات الأدبية على تأويل الآية وتطبيقها على الخلفاء الراشدين.
وأما في هذه الليلة فنبحث فيها من جهات أخرى حتى ينكشف الحق للحاضرين.
إن جناب الشيخ عبد السلام سلمه الله تعالى أول كل صفه من الصفات الأربعة في الآية الكريمة على أحد الراشدين بالترتيب فأقول:
أولا: لم يذكر أحد من المفسرين في شأن نزول الآية، هذا التأويل.
ثانيا: كلنا يعرف أن الصفات الأربعة المذكورة إذا اجتمعت كلها في شخص واحد، فهو المراد من الآية الكريمة.
وأما إذا تحقق بعضها في شخص، فلا يكون ذلك هو مقصود الآية ومرادها.
ونحن إذا نظرنا في تاريخ الإسلام نظر تحقيق وتعمق، ودرسنا حياة الصحابة دراسة تحليلية، ونظرنا في سيرتهم نظرة استقلالية، بعيدا عن الأغراض النفسية والعوارض القلبية، لوجدنا أن كل الصفات المذكورة في الآية الكريمة ما اجتمعت في واحد من الصحابة سوى مولانا علي بن أبي طالب عليه السلام.
الحافظ: إنكم معشر الشيعة تغالون في حق سيدنا علي كرم لله وجهه ، فكلما وجدتم آية في وصف المؤمنين والمتقين والمحسنين والصالحين، تقولون: نزلت في شأن الإمام علي!!
قلت: هذا اتهام وافتراء آخر منكم، نحن الشيعة لا نغالي في حق مولانا لإمام علي عليه السلام، وإنما نواليه ولا نبغضه، كما أراد الله سبحانه، فلذلك نقول فيه ما هو حقه، وإنه لظاهر كالشمس في الضحى.
من ينكر فضلك يا حيدر؟ | هل ضوء الشمس ضحى ينكر؟ |
الآيات النازلة في شأن علي عليه السلام
وأما الآيات المباركة الكثيرة التي نقول بأنها نزلت في شأن الإمام علي عليه السلام وفضله، إنما نذكر رواياتها وتفاسيرها من كتبكم المعتبرة ومن تفاسير علمائكم الأعلام.
فإن الحافظ أبو نعيم، صاحب كتاب " ما نزل من القرآن في علي " والحافظ أبو بكر الشيرازي، صاحب كتاب " نزول القرآن في علي " والحاكم الحسكاني، صاحب كتاب " شواهد التنزيل " فهؤلاء من علماء الشيعة أم من علمائكم؟؟
والمفسرون الكبار، أمثال: الإمام الثعلبي والسيوطي والطبري والفخر الرازي والزمخشري، والعلماء الأعلام، أمثال: ابن كثير ومسلم والحاكم والترمذي والنسائي وابن ماجة وأبي داود وأحمد بن حنبل وابن حجر والطبراني والكنجي والقندوزي، وغيرهم، الذين ذكروا في كتبهم ومسانيدهم وصحاحهم، الآيات القرآنية التي نزلت في شأن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام...
هل هم من علماء الشيعة أم من أهل السنة والجماعة؟؟
ولقد روى الحسكاني، والطبراني، والخطيب البغدادي في تاريخه، وابن عساكر في تاريخه، في ترجمة الإمام علي عليه السلام، وابن حجر في الصواعق: 76، ونور الأبصار: 73، ومحمد بن يوسف الكنجي في " كفاية الطالب " في أوائل الباب الثاني والستين، في تخصيص علي عليه السلام بمائة منقبة دون سائر الصحابة، بإسنادهم عن ابن عباس، قال: نزلت في علي بن أبي طالب ثلاثمائة آية.
وروى العلامة الكنجي في الباب الحادي والثلاثين بإسناده عن ابن عباس، قال: قال رسول الله (ص) ما أنزل الله تعالى آية فيها: (يا أيها الذين آمنوا) إلا وعلي رأسها وأميرها.
ورواه عن طريق آخر: إلا وعلي رأسها وأميرها وشريفها.
وروى في الباب عن ابن عباس أيضا أنه قال: ولقد عاتب الله عز وجل أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم في غير آي من القرآن وما ذكر عليا إلا بخير.
فمع هذه الأخبار المتظافرة والروايات المعتبرة الجمة التي رواها كبار علمائنا ومحدثيهم، نحن لا نحتاج لوضع الأحاديث وجعل الأخبار في شأن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام وإثبات فضله وجلالته وخلافته.
فإن رفعة مقامه وسمو شأنه وعلو قدره يلوح للمنصفين في سماء العلم والمعرفة، كشمس الضحى في وسط السماء، لا ينكرها إلا فاقدي البصر أو السفهاء.
وكما ينسب إلى الإمام محمد بن إدريس الشافعي ـ أو غيره من الأعلام ـ أنه حين سئل عن فضل الإمام علي عليه السلام قال: ما أقول في رجل، أخفى أعداؤه فضائله بغضا وحسدا، وأخفى محبوه فضائله خوفا ورهبا، وهو بين ذين وذين قد ملأت فضائله الخافقين(1).
وأما حول الآية الكريمة، فإني كل ما أقوله فهو من كتبكم وأقوال علمائكم، كما إني إلى الآن ما تمسكت بأقوال الشيعة في محاوراتي معكم، ولا أحتاج أن أتمسك بها في محاوراتي الآتية أيضا إن شاء الله تعالى.
وأما تطبيق الآية الكريمة: (محمد رسول الله والذين معه...) على مولانا وسيدنا الإمام علي عليه السلام، فهو ليس قولي فحسب، بل أذكر جيدا أن العلامة محمد بن يوسف القرشي الكنجي الشافعي، في كتابه " كفاية الطالب " في الباب الثالث والعشرين، وبعد روايته للحديث النبوي الشريف الذي يشبه فيه الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام بالأنبياء والمرسلين عليهم السلام.. فيقول العلامة الكنجي في شرحه للحديث:... وشبهه بنوح في حكمته، وفي رواية في حكمه، وكأنه أصح لأن عليا عليه السلام كان شديدا على الكافرين رؤوفا بالمؤمنين كما وصفه الله تعالى في القرآن بقوله: (والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم) وأخبر الله عز وجل عن شدة نوح عليه السلام على الكافرين بقوله: (.. رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا)(2)... إلى آخر كلام العلامة الكنجي.
وأما قول الشيخ عبد السلام: بأن (والذين معه) إشارة إلى أبي بكر لأنه كان صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الغار.
فإني أجبت بأن صحبته كانت من باب الصدفة، ولو سلمنا بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخذه معه لاعن صدفة، فهل مرافقة أيام قلائل وصحبة سفر واحد، تساوي مرافقة أكثر العمر وصحبة سنين عديدة هي التي قضاها مولانا الإمام علي عليه السلام تحت رعاية النبي (ص) وتعلم عنده وتأدب بآدابه وتربى على يده وتحت إشرافه؟!
فلو أنصفتم لقلتم: إن عليا أخص من أبي بكر في هذه الصفة أيضا، لأن رسول الله (ص) أخذه من أبي طالب ورباه في حجره وعلمه وأدبه، فكان أول من آمن به وعمره حينذاك عشر سنين، آمن علي عليه السلام حين كان أبو بكر وعمر وعثمان وأبو سفيان ومعاوية وغيرهم من المسلمين، كفارا مشركين، يعبدون الأوثان ويسجدون للأصنام ، وعلي ما سجد لصنم قط، كما صرح كثير من علمائكم.
النبي (ص) مربي علي عليه السلام ومعلمه
لقد ذكر بعض علمائكم موضوع تربية النبي عليا من الصغر.
منهم ابن الصباغ المالكي في كتابه " الفصول المهمة " فإنه خصص فصلا في الموضوع.
ومنهم محمد بن طلحة الشافعي في كتابه " مطالب السؤول " في الفصل الأول.
والحافظ سليمان الحنفي في " ينابيع المودة " الباب السادس والخمسين، ص 238 المكتبة الحيدرية، نقلا عن " ذخائر العقبى " للطبري.
والثعلبي في تفسيره عن مجاهد.
وابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة 13/198 ط دار إحياء الكتب العربية، نقلا عن الطبري في تاريخه(3)، روى بإسناده عن مجاهد قال كان من نعمة الله عز و جل على علي بن أبي طالب ع و ما صنع الله له و أراده به من الخير أن قريشا أصابتهم أزمة شديدة و كان أبو طالب ذا عيال كثير فقال رسول الله ص للعباس و كان من أيسر بني هاشم يا عباس إن أخاك أبا طالب كثير العيال و قد ترى ما أصاب الناس من هذه الأزمة فانطلق بنا فلنخفف عنه من عياله آخذ من بيته واحدا و تأخذ واحدا فنكفيهما عنه فقال العباس نعم فانطلقا حتى أتيا أبا طالب فقالا له إنا نريد أن نخفف عنك من عيالك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه فقال لهما إن تركتما لي عقيلا فاصنعا ما شئتما فأخذ رسول الله ص عليا فضمه إليه و أخذ العباس جعفرا رضي الله عنه فضمه إليه فلم يزل علي بن أبي طالب ع مع رسول الله ص حتى بعثه الله نبيا فاتبعه علي ع فأقر به و صدقه و لم يزل جعفر عند العباس حتى أسلد العباس حتى أسلم و استغنى عنه(4).
وقال ابن الصباغ المالكي بعد نقله للرواية: فلم يزل علي عليه السلام مع رسول الله (ص) حتى بعث الله عز وجل محمدا نبيا، فاتبعه علي عليه السلام وآمن به وصدقه، وكان إذ ذاك في السنة الثالثة عشر من عمره لم يبلغ الحلم، وإنه أول من أسلم وآمن برسول الله (ص) من الذكور.
علي عليه السلام أول من آمن
ثم ينقل ابن الصباغ المالكي، قول الإمام الثعلبي في تفسيره للآية الكريمة (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار..)(5)، إنه روى عن ابن عباس وجابر بن عبد الله الأنصاري وزيد بن أرقم ومحمد بن المنكدر وربيعة المرائي، أنهم قالوا: أول من آمن برسول الله (ص) بعد خديجة أم المؤمنين، هو علي بن أبي طالب.
وهذا الموضوع الهام صرح به كبار علمائكم الأعلام، مثل: البخاري ومسلم في الصحيح، والإمام أحمد في مسنده، وابن عبد البر في الاستيعاب: 3/32 والإمام النسائي في الخصائص، وسبط ابن الجوزي في التذكرة: 63 والحافظ سليمان القندوزي في الينابيع باب 12ـ نقلا عن مسلم والترمذي، وابن أبي الحديد في شرح النهج: 13/224 ط احياء الكتب العربية، والحمويني في فرائد السمطين، والمير السيد الهمداني في مودة القربى، والترمذي في الجامع:2/214، وابن حجر في الصواعق، ومحمد بن طلحة القرشي في مطالب السؤول ـ الفصل الأول ـ وغيرهم من كبار علمائكم ومحدثيكم ذكروا بأن: النبي (ص) بعث يوم الاثنين وآمن به علي يوم الثلاثاء ـ وفي رواية: وصلى علي يوم الثلاثاء ـ وقالوا: إنه أول من آمن برسول الله (ص) من الذكور.
كما جاء في مطالب السؤول: ولما أنزل الوحي على رسول الله (ص) وشرفه الله سبحانه وتعالى بالنبوة كان علي عليه السلام يومئذ لم يبلغ الحلم، وكان عمره إذ ذاك في السنة الثالثة عشر، وقيل: أقل من ذلك، وقيل: أكثر منه، وأكثر الأقوال وأشهرها: أنه لم يكن بالغا، فإنه أول من أسلم وآمن برسول الله (ص) من الذكور، وقد ذكر عليه السلام ذلك وأشار إليه في أبيات قالها ونقلها عنه الثقات ورواها النقلة الاثبات، وهي:
محمد النبي أخي وصنوي | وحمزة سيد الشهداء عمي |
وجعفر الذي يضحي ويمسي | يطير مع الملائكة ابن أمي |
وبنت محمد سكني وعرسي | منوط لحمها بلحمي ودمي |
سبقتكم إلى الإسلام طــرا | غلاما ما بلغت أوان حلمي |
وأوجب لي ولايته عليكـم | رسول الله يوم غـدير خم |
فويل ثم ويل ثم ويل لمن يلقى | الإله غـــــدا بظلمي(6) |
وروى الحاكم الحسكاني في كتابه " شواهد التنزيل " في ذيل الآية (السابقون الأولون...) بسنده عن عبد الرحمن بن عوف، أن عشرة من قريش آمنوا وكان أولهم علي بن أبي طالب.
وروى كثير من علمائكم ـ منهم الإمام أحمد في مسنده، والخطيب الخوارزمي في " المناقب " والحافظ سليمان الحنفي القندوزي في الباب الثاني عشر من " الينابيع " وغيرهم ـ بإسنادهم عن أنس بن مالك، أن النبي (ص) قال: صلت الملائكة علي وعلى علي سبع سنين، وذلك أنه لم ترفع شهادة أن لا إله إلا الله إلى السماء، إلا مني ومن علي.
وأما ابن أبي الحديد في سرح نهج البلاغة: 4/125 ط دار إحياء الكتب العربية، بعدما نقل روايات كثيرة في سبق علي عليه السلام إلى الإيمان، وأخرى مخالفة، قال: فدل مجموع ما ذكرناه أن عليا عليه السلام أول الناس إسلاما وأن المخالف في ذلك شاذ، والشاذ لا يعتد به.
وهذا الإمام الحافظ أحمد بن شعيب النسائي، صاحب واحد من الصحاح الستة عندكم، له كتاب " خصائص الإمام علي عليه السلام " فإنه روى أول حديث في هذا الكتاب بإسناده عن زيد بن أرقم، قال: أول من صلى مع رسول الله (ص) علي رضي الله عنه.
وابن حجر الهيتمي ـ مع شدة تعصبه ـ يرى أن عليا عليه السام أول من آمن، كما في الفصل الثاني من كتابه " الصواعق المحرقة ".
ونقل الحافظ سليمان الحنفي القندوزي في كتابه " ينابيع المودة " في الباب الثاني عشر، نقل واحدا وثلاثين خبرا ورواية عن الترمذي والحمويني وابن ماجة وأحمد بن حنبل والحافظ أبي نعيم والامام الثعلبي وابن المغازلي وأبي المؤيد الخوارزمي والديلمي وغيرهم، بعبارات مختلفة والمعنى واحد، وهو أن عليا عليه السلام أول من أسلم وآمن وصلى مع رسول الله (ص).
وينقل رواية شريفة في آخر الباب، من كتاب المناقب بالاسناد عن أبي زبير المكي، عن جابر بن عبد الله الأنصاري، أنقلها لكم إتماما للحجة وإكمالا للفائدة.
عن رسول الله (ص) قال: " إن الله تبارك و تعالى اصطفاني و اختارني و جعلني رسولا، وأنزل علي سيد الكتب، فقلت: إلهي و سيدي، إنك أرسلت موسى إلى فرعون فسألك أن تجعل معه أخاه هارون وزيرا، تشد به عضده و يصدق به قوله و إني أسألك يا سيدي و إلهي، أن تجعل لي من أهلي وزيرا تشد به عضدي، فاجعل لي عليا وزيرا وأخا، واجعل الشجاعة في قلبه، و ألبسه الهيبة على عدوه، وهو أول من آمن بي و صدقني و أول من وحد الله معي.
و إني سألت ذلك ربي عز و جل فأعطانيه، فهو سيد الأوصياء، اللحوق به سعادة، و الموت في طاعته شهادة، واسمه في التوراة مقرون إلى اسمي، وزوجته الصديقة الكبرى ابنتي. و ابناه سيدا شباب أهل الجنة ابناي، وهو وهما والأئمة بعدهم حجج الله على خلقه بعد النبيين، وهم أبواب العلم في أمتي، من تبعهم نجا من النار، ومن اقتدى بهم هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، لم يهب الله عز و جل محبتهم لعبد إلا أدخله الله الجنة ".
فهذا قليل من كثير مما نقله حملة الأخبار، من علمائكم الكبار، في هذا المضمار، ولو نقلتها كلها لطال بنا المجلس في موضوع واحد إلى النهار، ولكن أكتفي بهذه النماذج التي ذكرتها لكي يعرف العلماء والحاضرون أن الإمام علي عليه السلام كان مع النبي (ص) منذ صغره وقبل أن يبعث.
وحينما بعث (ص) بالنبوة، آمن به علي عليه السلام ولازمه ولم يفارقه أبدا.
فهو أولى وأجلى لمصداق الآية: (والذين معه) من الذي صاحب النبي وكان معه في سفر واحد.
شبهة على الموضوع وردها
الحافظ: نحن كلنا نقول بما تقولون، ونقر بأن عليا كرم الله وجهه أول من آمن، وأن أبا بكر وعمر وعثمان وغيرهم من الصحابة آمنوا بعده بمدة من الزمن، ولكن إيمان أولئك يفرق عن إيمان علي بن أبي طالب إذ لا يحسب العقلاء إيمانه في ذلك الزمان فضيلة، ويحسبون إيمان أولئك المتأخرين عنه فضيلة!
لأن عليا كرم الله وجهه، آمن وهو صبي لم يبلغ الحلم، وأولئك آمنوا وهم شيوخ كبار في كمال العقل والإدراك.
ومن الواضح أن إيمان شيخ محنك ومجرب ذي عقل وبصيرة أفضل من إيمان طفل لم يبلغ الحلم.
وأضف على هذا أن إيمان سيدنا علي تقليدا وإيمانهم كان تحقيقا وهو أفضل من الإيمان التقليدي.
قلت: إني أتعجب من هذا الكلام، وأنتم علماء القوم! أنا لا أنسبكم إلى اللجاج والعناد والتعصب، ولكن أقول: إنكم تفوهتم من غير تفكر، وتكلمتم من غير تدبر، تبعا لأسلافكم الذي قلدوا بني أمية وتبعوا الناصبين العداء للعترة الهادية!
والآن، لكي يتضح لكم الأمر، أجيبوا على سؤالي:
هل إن عليا عليه السلام حين آمن صبيا، كان إيمانه بدعوة من رسول الله (ص) أم من عند نفسه؟!
الحافظ: أولا: لماذا تنزعجون من طرح الشبهة وتتضجرون من إيراد الإشكال، فإذا لم نطرح ما يختلج في صدورنا من الشبهات، ولا نستشكل على كلامكم، فلن يصدق على مجلسنا اسم الحوار والمناظرة، فقد اجتمعنا هنا لنعرف الحق، وهذا يقتضي أن نطرح كل ما يكون في أذهاننا من الشبهات والإشكالات حول مذهبكم وعقائدكم، فإن دفعتم الشبهات ورفعتم الاشكالات وأوضحتم الحق، يلزم علينا أن نصدقكم ونعتنق مذهبكم، وإذا لم تتمكنوا من ذلك فيلزم عليكم تصديق مذهبنا وترك مذهبكم.
ثانيا: وأما جواب سؤالكم، أقول: من الواضح أن عليا كرم الله وجهه إنما آمن بدعوة من النبي (ص) لا من عند نفسه.
قلت: هل إن النبي (ص) حين دعا عليا عليه السلام إلى الإيمان كان يعلم أن لا تكليف على الطفل الذي لم يبلغ الحلم أم لا؟!
إذا قلتم: ما كان يعلم! فقد نسبتم الجهل إلى النبي (ص) وذلك لا يجوز، لأنه (ص) مدينة العلم، ولا يخفى عليه شيء من الأحكام.
وإذا قلتم: إنه (ص) كان يعلم أن لا تكليف على الطفل ومع ذلك دعا عليا عليه السلام وهو صبي إلى الإيمان بالله والإيمان برسالته، فيلزم من قولكم إن النبي (ص) قام بعمل لغو وعبث، والقول بهذا في حد الكفر بالله سبحانه!
لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مؤيد بالعصمة، ومسدد بالحكمة من الله تعالى وهو بريء من اللغو والعبث، وقد قال عز وجل في شأنه:
(وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى)(8).
فضيلة سبق علي عليه السلام إلى الإيمان
لقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دعا عليا عليه السلام إلى الإيمان، فاستجاب وآمن بالله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
والنبي صلى الله عليه وآله وسلم سيد العقلاء والحكماء، ولا يصدر منه عمل اللغو والعبث، فلابد أنه رأى عليا عليه السلام أهلا وكفوا، فدعاه إلى الإيمان صبيا. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على قابلية الإمام علي عليه السلام ولياقته وكماله وفضله وتميزه و وفور عقله.
وصغر السن لا ينافي الكمال العقلي، وبلوغ الحلم وحده لا يكون سبب التكليف، فإن هناك من بلغ الحلم ولم يكلف ـ لقصر عقله وسفهه ـ وبالعكس، نجد من لم يبلغ الحلم، لكن الله كلفه بأعظم التكاليف، كما قال سبحانه وتعالى في شأن يحي عليه السلام: (وآتيناه الحكم صبيا) (9).
وقال تعالى حكاية عن عيسى بن مريم: (إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا)(10).
قال هذه الجملة، وهو صبي في المهد، فالحكم المأتي ليحيى إنما كان تكليفا من الله تعالى ليحي عليه السلام، والنبوة كذلك تكليف من عند الله عز وجل لعيسى بن مريم عليه السلام، وهذان التكليفان لهذين الصبيين، دليل على عظمة شأنهما وكمالهما وكفايتهما وفضلهما و وفور عقلهما.
وإيمان الإمام علي عليه السلام بدعوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنما هو تكليف موجه من هذا القبيل، وهو على فضله وكماله أكبر دليل!
وقد أشار سيد الشعراء إسماعيل الحميري ـ المتوفي سنة 179 هجرية ـ إلى هذه الفضيلة قائلا:
وصي مـحـمد وأبو بـنـيه | و وارثه وفارسه الوفيا |
وقد أوتي الهدى والحكم طفلا | كيحيى يوم أوتيه صبيا |
سبقتكم إلى الإسلام طفلا صغيرا | ما بلغت أوان حلمي(11) |
فقد روى الحافظ سليمان الحنفي في " ينابيع المودة " الباب السادس والخمسين، عن محب الدين الطبري المكي في كتابه " ذخائر العقبى " بسنده عن عمر بن الخطاب، أنه قال:
كنت أنا وأبو بكر وأبو عبيدة وجماعة إذ ضرب النبي صلى الله عليه وآله وسلم منكب علي فقال: يا علي! أنت أول المؤمنين أيمانا، وأولهم إسلاما، وأنت مني بمنزلة هارون من موسى.
وروى الإمام أحمد في مسنده عن ابن عباس، أنه قال: كنت أنا وأبو بكر وأبو عبيدة بن الجراح وجماعة من الصحابة عند النبي (ص) إذ ضرب على منكب علي بن أبي طالب(ع) فقال: أنت أول المسلمين إسلاما، وأنت أول المؤمنين إيمانا، وأنت مني بمنزلة هارون من موسى، كذب يا علي من زعم أنه يحبني ويبغضك.
ورواه ابن الصباغ المالكي عن ابن عباس أيضا في الفصول المهمة( 125) وروى الإمام أحمد بن شعيب بن سنان النسائي في الخصائص وموفق بن أحمد الخطيب الخوارزمي في " المناقب " مختصرا، وابن عساكر في تاريخه مختصرا، وأخرجه المتقي الهندي في كنز العمال 6/395، وهذا نصه:
من مسند عمر، عن ابن عباس قال: قال عمر بن الخطاب: كفوا عن ذكر علي بن أبي طالب، فإني سمعت رسول الله (ص) يقول في علي ثلاث خصال، لأن يكون لي واحدة منهن أحب إلي مما طلعت عليه الشمس، كنت أنا وأبو بكر وأبو عبيدة بن الجراح ونفر من أصحاب رسول الله(ص) والنبي متكىء على علي بن أبي طالب، حتى ضرب بيده على منكبه ثم قال: أنت يا علي أول
المؤمنين إيمانا، وأولهم إسلاما، أنت مني بمنزلة هارون من موسى، وكذب علي من زعم أنه يحبني ويبغضك.
وفي رواية ابن الصباغ المالكي أضاف: من أحبك فقد أحبني، ومن أحبني أحبه الله، ومن أحبه الله أدخله الجنة، ومن أبغضك فقد أبغضني ومن أبغضني أبغضه الله تعالى وأدخله النار(12).
وروى الطبري في تاريخه عن محمد بن سعد بن أبي وقاص، قال:
سألت أبي: هل إن أبا بكر أول من آمن بالنبي (ص)؟
فقال: لا، ولقد أسلم قبله أكثر من خمسين رجلا، ولكنه كان أفضل منا في الإسلام.
ولقد ذكر الطبري أيضا فقال: ولقد أسلم قبل عمر بن الخطاب خمسة وأربعون رجلا وإحدى وعشرون امرأة، ولكن أسبق الناس إسلاما وإيمانا فهو علي بن أبي طالب.
ميزة إيمان علي عليه السلام
ثم إن لإيمان علي عليه السلام ميزة على إيمان غيره، وهي أن إيمانه عليه السلام كان عن فطرة غير مسبوق بكفر أو شرك، فإنه بدأ حياته التكليفية بالإيمان ولم يشرك بالله سبحانه طرفة عين، بينما الآخرون بدءوا بالكفر والشرك ثم آمنوا، فكان إيمانهم مسبوق بالكفر والشرك، وإيمان الإمام علي عليه السلام كان عن فطرة، وهو فضيلة عظيمة وميزة كريمة امتاز بها عن غيره.
لذا قال الحافظ أبو نعيم في كتابه " ما نزل من القرآن في علي عليه السلام " والمير السيد علي الهمداني في كتابه " مودة القربى " نقلا عن ابن عباس أنه قال: والله ما من عبد آمن بالله إلا وقد عبد صنم، إلا علي بن أبي طالب، فإنه آمن بالله من غير أن يعبد صنما.
وروى محمد بن يوسف الكنجي القرشي في " كفاية الطالب " الباب الرابع والعشرون، بإسناده إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: سباق الأمم ثلاثة لم يشركوا بالله طرفة عين: علي بن أبي طالب، وصاحب ياسين، ومؤمن آل فرعون ؛ فهم الصديقون، حبيب النجار مؤمن أو صاحب ياسين، وحزقيل مؤمن آل فرعون، وعلي بن أبي طالب وهو أفضلهم(13).
وفي " نهج البلاغة " قال علي عليه السلام: فإني ولدت على الفطرة ، وسبقت إلى الإيمان والهجرة.
وروى الحافظ أبو نعيم وابن أبي الحديد وغيرهما، أن عليا عليه السلام لم يكفر بالله طرفة عين.
وروى الإمام أحمد في المسند، والحافظ سليمان الحنفي في " ينابيع المودة " عن ابن عباس، أنه قال لزمعة بن خارجة: إنه عليا لم يعبد صنما، ولم يشرب خمرا، وكان أول الناس إسلاما.
وأخيرا أتوجه إلى من يقول بأن إيمان الشيخين أفضل من إيمان علي عليه السلام فأسأله: أما سمع الحديث النبوي الشريف الذي رواه كبار علماء العامة، منهم: ابن المغازلي في المناقب، والإمام أحمد في المسند، والخطيب الخوارزمي في المناقب، والحافظ سليمان الحنفي في " ينابيع المودة " وغيرهم، رووا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: لو وزن إيمان علي وإيمان أمتي لرجح إيمان علي على إيمان أمتي إلى يوم القيامة.
وروى الإمام الثعلبي في تفسيره، والخوارزمي في المناقب، والمير السيد علي الهمداني في المودة السابعة من كتابه " مودة القربى " عن عمر بن الخطاب، قال: أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: لو أن السموات السبع والأرضين السبع وضعن في كفة ميزان ووضع إيمان علي في كفة ميزان لرجح إيمان علي(14).
وفي ذلك يقول سفيان بن مصعب الكوفي:
أشهد بالله لقد قال لنا | محمد والقول منه ما خفى |
لو أن إيمان جميع الخلق ممن | سكن الأرض ومن حل السما |
يجعل في كفة ميزان لكي | يوفي بإيمان علي ما وف |
علي عليه السلام أفضل الأمة
روى المير السيد علي الهمداني، الفقيه الشافعي، في كتابه " مودة القربى " أخبارا متظافرة في أفضلية الإمام علي عليه السلام على جميع الصحابة، بل على جميع الأمة.
قال في المودة السابعة: عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: أفضل رجال العالمين في زماني هذا علي عليه السلام(15).
وقال ابن أبي الحديد في مقدمة شرح نهج البلاغة: 1/9: وأما نحن فنذهب إلى ما ذهب إليه شيوخنا البغداديون، من تفضيله(ع) ـ أي: علي ـ وقد ذكرنا في كتبنا الكلامية ما معنى الفضل، وهل المراد به الأكثر ثوابا، أو الأجمع لمزايا الفضل والخلال الحميدة، وبينا أنه عليه السلام أفضل على التفسيرين معا.
وقال في11/119: وقع بيدي بعد ذلك كتاب لشيخنا أبي جعفر الإسكافي ، ذكر فيه أن مذهب بشر بن المعتمر، وأبي موسى، وجعفر بن بشر، وسائر قدماء البغداديين، أن أفضل المسلمين علي ابن أبي طالب، ثم ابنه الحسن، ثم ابنه الحسين ، ثم حمزة بن عبدالمطلب، ثم جعفربن أبي طالب...إلخ.
وبعد نقله هذا القول، وعده عقيدة المعتزلة، ينظم فيه شعرا، فيقول:
وخير خلق الله بعد المصطفى | أعظمهم يوم الفخار شرفا |
السيد المـعظـم الوصي | بعد البتول المرتضى علي |
وابناه ثم حمزة وجعفر ثم | عتيق بعـــدهم لا ينكر |
قلت: وأنتم إذا كنتم تتركون أقوال المتعصبين وتأخذون بأقوال المنصفين من علمائكم الأعلام، لرأيتم رأينا وتمسكتم بقولنا في تفضيل الإمام علي عليه السلام.
ولكي تعرف دلائل وبراهين الطرفين أدلك على مصدر واحد كنموذج راجع: شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ 13/215 ـ295، فإنه ذكر في هذا الفصل من الكتاب كلام الجاحظ، ودلائله على
أفضلية صاحبكم، أبي بكر، وذكر رد أبي جعفر الإسكافي وهو من أفاضل علماء السنة وكبار أعلام الأمة وشيخ المعتزلة، وذكر دلائله وبراهينه العقلية والنقلية في تفضيل الإمام علي(ع) على غيره من الأمة.
ومن جملة كلامه ـ في صفحة 275 ـ يقول أبو جعفر الإسكافي: إننا لا ننكر فضل الصحابة وسوابقهم، ولسنا كالإمامية الذين يحملهم الهوى على جحد الأمور المعلومة (لقد أصدر علينا حكما غيابيا ولو كنا لأجبناه).. قال: ولكننا ننكر تفضيل أحد من الصحابة على علي بن أبي طالب(ع) انتهى.
فنستفيد من مجموع الأخبار والأحاديث وأقوال العلماء والمحدثين، أن عليا عليه السلام لا يقاس به أحد من المسلمين. وأن مقامه أسمى وشأنه أعلى من الآخرين بمراتب، فلا يمكن أن تقدموهم عليه بنقل بعض الأحاديث الضعيفة السند أو الدلالة.