المجلس الثاني
ليلة السبت 24/ رجب /1245هـ
بعدما انتهيت من صلاة العشاء، حضر أصحاب البحث والحوار وكانوا أكثر عددا من الليلة الماضية، فاستقبلتهم ورحبت بهم، وبعد أن استقروا في أماكنهم وشربوا الشاي، افتتح الحافظ كلامه قائلا:
أقول حقيقة لا تملقا: لقد استفدنا في الليلة السابقة من بيانكم الشيق وكلامكم العذب، وبعدما انصرفنا من هنا كنا نتحدث في الطريق عن شخصيتكم وأخلاقكم، وعن علمكم الغزير واطلاعكم الكثير، وقد انجذبنا لصورتك الجميلة وسيرتك النبيلة، وهما قل ان يجتمعا في واحد، فأشهد أنك ابن رسول الله (ص) حقا.
وإني راجعت المكتبة في هذا اليوم، وتصفحت بعض كتب الأنساب حول بني هاشم والسادة الشرفاء، فوجدت كلامكم في الليلة الماضية حول نسبكم الشريف مطابقا في تلك الكتب، واغتبطت بهذا النسب العالي لسماحتكم.
ولكن استغربت وتعجبت من شيء واحد، وهو: أن شخصا شريفا صحيح النسب كجنابكم مع حسن الصورة والسيرة،كيف تأثرتم بالعادات الواهية والعقائد العامية، وتركتم طريقة أجدادكم الكرام واتبعتم سياسة الإيرانيين المجوس، وتمسكتم بمذهبهم وتقاليدهم؟!
قلت:
أولا: أشكرك على أول كلامك حول نسبي وحسن ظنك بي.
ولكنك اضطربت بعد ذلك في الكلام، وخلطت الحلال بالحرام، سردت جملا مبهمة ما عرفت قصدك منها والمرام، وإن كلامك هذا عندي أقاويل وأوهام.
فالرجاء.. وضح لي مرادك من: " العادات الواهية والعقائد العامية ".
وما المقصود من: " طريقة أجدادي الكرام "؟!
وما هي: " سياسة الإيرانيين الني اتبعتها "؟!
الحافظ: أقصد بالعادات الواهية والعقائد العامية: البدع المضلة والتقاليد المخلة، التي أدخلها اليهود في الإسلام.
قلت: هل يمكن أن توضح لي أكثر حتى أعرف ما هذه البدع التي تأثرت أنا بها؟!
الحافظ: إنك تعلم جيدا والتاريخ يشهد، أن بعد موت كل نبي صاحب كتاب، اجتمع أعداؤه وحرفوا كتابه، مثل التوراة والإنجيل فحذفوا وزادوا، وغيروا وبدلوا، حتى سقط دينهم وكتابهم عن الاعتبار.
ولكن أعداء الإسلام لم يتمكنوا من تحريف القرآن الحكيم، فدخلوا من باب آخر، فإن جماعة من اليهود ـ وهم ألد أعداء الإسلام ـ دخلوا الدين وأسلموا عن مكر وخداع، مثل: عبدالله بن سبأ، كعب الأحبار، ووهب بن منبه، وغيرهم..، أسلموا بالظاهر ولكنهم بدءوا يبثون وينشرون عقائدهم الباطلة بين المسلمين، وذلك عن طريق جعل الأحاديث عن لسان رسول الله (ص).
فأراد الخليفة الثالث عثمان، أن يلقي القبض عليهم ليؤدبهم ففروا إلى مصر واستقروا فيها، فاجتمع حولهم الجاهلون واغتروا بعقائدهم، وصاروا حزبا باسم : " الشيعة " فأعلنوا إمامة علي بن أبي طالب في عهد عثمان رغما له لا حبا لعلي كرم الله وجهه، فوضعوا أحاديث كاذبة في تأييد مذهبهم، مثل:
قال النبي (ص): " علي خليفتي وإمام المسلمين بعدي ".
فكانوا السبب في سفك دماء المسلمين حتى انتهى الأمر إلى قتل عثمان ذي النورين، وبعده نصبوا عليا وبايعوه بالخلافة، فالتف الناقمون على عثمان حول علي ونصروه، فمنذ ذلك الوقت ظهر حزب الشيعة!
ولكن في حكومة بني أمية، لما قاموا بقتل آل علي ومواليه، اختفى هذا الحزب.
وإن عددا من الصحابة، أمثال: سلمان الفارسي وأبي ذر الغفاري وعمار بن ياسر، كانوا يدعون الناس بعد النبي (ص) إلى علي كرم الله وجهه، ولكن عليا لم يكن راضيا بهذا العمل.
فاختفى حزب الشيعة أيام بني أمية وأوائل حكومة بني العباس، وبعد أن تولى هارون الرشيد الحكم ظهر حزب الشيعة مرة أخرى وخاصة في خلافة المأمون، إذ تغلب بمساعدة الإيرانيين على أخيه الأمين فقتله واستولى على الحكم، فقويت شوكته بالإيرانيين، وهم كانوا يفضلون علي بن أبي طالب على الخلفاء الراشدين، وكانوا يسوقون المسلمين إلى الاعتقاد بهذا الباطل، كل ذلك لغرض سياسي ومرض نفسي.
إن الإيرانيين كانوا حاقدين على العرب، لأن حكومتهم اضمحلت وسيادتهم بادت بسيوف العرب.
فكانوا بصدد اختراع مذهب يخالف دين العرب ومذاهبهم، فلما سمعوا بحزب الشيعة وعقائدهم، تقبلوه وسعوا في نشره، وخاصة في دولة آل بويه حين قويت شوكتهم واستولوا على كثير من بلاد الإسلام.
وأما في الدولة الصفوية فقد أعلنوا مذهب الشيعة رسميا في إيران، والحقيقة أن مذهبهم الرسمي هو " المجوسية " كما تقتضي سياستهم، فإنهم إلى يومنا هذا يختلفون مع جميع المسلمين في العالم ويقولون: نحن شيعة.
فالتشيع مذهب سياسي حادث، ابتدعه عبد الله بن سبأ اليهودي، ولم يكن لهذا المذهب اسم في الإسلام.
وإن جدك رسول الله (ص) بريء من هذا المذهب واسمه، لأنه على خلاف سنته وتشريعه، بل هو متشعب من دين اليهود وعقائدهم.
لذا أتعجب حينما أرى عالما شريفا مع هذا النسب الرفيع يتبع هذا المذهب الباطل ويترك دين جده، الإسلام الحنيف!!
وأنت ـ يا سيد ـ أولى باتباع جدك وبالعمل بالقرآن والسنة النبوية الشريفة.
لما كان الحافظ يسترسل في كلامه ويتقول ما يريد، كنت أشاهد الشيعة الحاضرين في المجلس قد تغيرت وجوههم حتى كادوا يهجمون عليه، ولكني أشرت إليهم بالهدوء والوقار.
ثم أجبت الحافظ وقلت: ما كنت أتوقع منك ـ وأنت من أهل العلم ـ أن تتمسك بكلام وهمي واه من أباطيل المنافقين وأكاذيب الخوارج وأقاويل النواصب، أشاعه الأمويون وتقبله العوام الجاهلون.
وإنك خلطت أمرين متباينين، وجمعت بين الضدين، حيث حسبت الشيعة اتباع عبد الله بن سبأ، والحال أنهم يذكروه في كتبهم باللعن ويحسبوه منافقا كافرا.
وعلى فرض ان ابن سبأ كان يدعي أنه موالي علي بن أبي طالب ومحبيه، وذلك لغرض سياسي، فهل من الحق أن تحسبوا أعماله المخالفة للإسلام، على حساب شيعة آل محمد (ص) المخلصين المؤمنين؟!
فلو ظهر لص في زي أهل العلم، وصعد المنبر وصلى بالناس، ولما وثق به المسلمون خانهم وسرق أموالهم، فهل صحيح أن نقول: كل العلماء لصوص وسراق؟!
فتعريفك للشيعة بأنهم أتباع ابن سبأ الملعون، بعيد عن الإنصاف، وخلاف الحقيقة والوجدان.
لذا تعجبت كثيرا من تعبيرك عن مذهب الشيعة، بحزب سياسي اختلقه ابن سبأ اليهودي في عهد عثمان!
وأستغرب كيف تقرأ هذه الأكاذيب وتعتمد عليها، ولا تقرأ الأخبار الصحيحة والروايات الصريحة عن الشيعة في كتبكم المعتبرة أن النبي (ص) هو الواضع لأسس الشيعة وأصولها، وقد شاعت كلمة " شيعة علي " من لسان رسول الله (ص) بين أصحابه، كما نقل وروي ذلك علماؤكم في كتبهم وتفاسيرهم(1).
وإذا كنت تستند في حوارك هذا على كلام الخوارج، وتقولات النواصب، فإني أستند إلى القرآن الحكيم، والأخبار المعتبرة عندكم، حتى يظهر الحق ويزهق الباطل.
وأنصحكم أن لا تتكلموا من غير تحقيق، لأن الحق سوف يظهر، وكلامكم يفند من قبل الحاضرين، فحينئذ يصيبكم الخجل فتندمون، ولا يفيد حينها الندم، ولتكن الآية الشريفة نصب أعينكم: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) (2).
فكلامكم يسجل عليكم ويحفظ عند ربكم، وتحاسبون عليه.
والآن إذا تسمحون لي ولا تتألمون من كلامي، أثبت لكم بالأدلة المقبولة، أن الحق خلاف ما قلتم، والصواب غير ما اعتقدتم.
الحافظ: إن مجلسنا انعقد لهذا الغرض، وكل هذا النقاش والحوار من أجل رفع الشبهات وكشف الحقائق المبهمات، والكلام الحق لا يؤلمنا.
حقيقة الشيعة وبدايتها
قلت: تعلمون أن كلمة: " الشيعة " بمعنى: الأتباع والأنصار(3).
قال " الفيروزآبادي " في (القاموس) في كلمة " شاع ":... وشيعة الرجل: أتباعه وأنصاره، والفرقة على حدة، ويقع على الواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث، وقد غلب هذا الاسم على كل من يتولى عليا وأهل بيته، حتى صار اسما لهم خاصا، جمعه: أشياع وشيع.
فهذا هو معنى كلمة: " الشيعة " فأرجو أن لا تشتبهوا في معناها بعد اليوم.
وأما الاشتباه الآخر الذي صدر منكم عمدا أو سهوا، أو لعدم اطلاعكم على التفاسير والأحاديث الشريفة، أو لأنكم تأثرتم بكلام واه تقوّله أسلافكم، وأنتم قبلتموه من غير تحقيق فكررتم كذبهم بقولكم: إن كلمة " الشيعة " وإطلاقها على أتباع علي بن أبي طالب ومواليه، حدث في عهد عثمان وخلافته، وابتدعه عبدالله بن سبأ اليهودي!
والحال أن هذا الكلام خلاف الواقع والحقيقة، فإن كلمة " الشيعة " اصطلاح يطلق على أتباع علي بن أبي طالب وأنصاره منذ عهد النبي (ص) وإن واضع هذه الكلمة والذي جعلها علما عليهم هو رسول الله (ص)، وهو كما قال الله عز وجل فيه: (وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى)(4).
وقد قال (ص): " شيعة علي هم الفائزون " وروى علماؤكم هذا الحديث وأمثاله في كتبهم وتفاسيرهم.
الحافظ: لم أجد هكذا روايات وأحاديث في كتبنا، وليتني كنت أعرف، في أي كتاب من كتبنا قرأتم هذا الحديث وأمثاله؟!
قلت: هل إنكم لم تجدوا هذا الحديث وأمثاله في كتبكم، أم استنكفتم من قبوله وأغمضتم عينكم وأبيتم إلا الجحود والكتمان؟؟!
ولكنا حين قرأناه في كتبكم وكتبنا، قبلناه وأعلناه، ولا نكتمه أبدا، لأن الله تعالى يقول: (عن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون)(5).
وقال عز وجل: (إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم)(6).
فالله عز وجل يلعن الذين يكتمون الحق ويخبر أنهم من أهل النار والعذاب، فإياكم أن تكونوا منهم.
الحافظ: هذه الآيات حق وصدق، تبين جزاء الذين يكتمون الحق، ولكنا ما كتمنا حقا، فلا تشملنا هذه الآيات الكريمة.
قلت: بإذن الله ولطفه، وتحت رعايته وعنايته، وبالاستمداد من جدي خاتم الأنبياء (ص)، سأكشف لكم الحق الذي هو أظهر وأجلى من الشمس، وأبدد ظلام الأوهام عن وجه الحقيقة، حتى يعرفها جميع الحاضرين.
وأرجو أن تجعلوا هذه الآيات الكريمة نصب أعينكم، حتى لا تأخذكم العزة بالإثم ولا تخافوا لومة لائم.
ورجائي أن تتركوا التعصب لتقاليد آبائكم وتتحروا من أغلال العادات التي قيدكم بها أسلافكم، فحينئذ يسهل عليكم قبول الحق وإعلان الحقيقة.
الحافظ: أشهد الله أني لا أتعصب، ولا أماري، ولا أجادل، بل إذا اتضح الحق تمسكت به، وإذا عرفت الحقيقة قبلتها وأعلنتها.
وأنا لا أجتهد لأكون غالبا في المحاورة، إنما أريد أن أعرف الحق والحقيقة، فإذا ظهر الحق ومع ذلك تعصبت وجادلت فأكون ملعونا ومعذبا في النار كما صرح الله تعالى.
أما الآن فنحن مستعدون لاستماع حديثك، وأسأل الله عز وجل أن يجمعنا وإياكم على الحق.
قلت: روى الحافظ أبو نعيم(7) في كتابه " حلية الأولياء " بسنده عن ابن عباس، قال: لما نزلت الآية الشريفة:
(إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية)(8) خاطب رسول الله (ص) علي بن أبي طالب وقال: يا علي! هو أنت وشيعتك، تأتي أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيين.
ورواه أبو مؤيد، موفق بن أحمد الخوارزمي في الفصل 17 من كتاب المناقب في كتاب تذكرة خواص الأمة(9) وسبط ابن الجوزي(10) بحذف الآية.
وروى الحاكم عبيد الله الحسكاني، وهو من أعاظم مفسريكم، في كتابه (شواهد التنزيل) عن الحاكم أبي عبدالله الحافظ، بسند مرفوع إلى يزيد بن شراحيل الأنصاري، قال: سمعت عليا عليه السلام يقول: حدثني رسول الله (ص) وأنا مسنده إلى صدري، فقال: أي علي. ألم تسمع قول الله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية)(11).
؟ هم أنت وشيعتك، وموعدي وموعدكم الحوض، إذا جثت الأمم للحساب، تدعون غرا محجلين(12).
وروى أبو المؤيد الموفق أحمد الخوارزمي في مناقبه في الفصل التاسع(13) عن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: كنا عند النبي (ص) فأقبل علي بن أبي طالب، فقال (ص): قد أتاكم أخي، ثم التفت إلى الكعبة فضربها بيده ثم قال: والذي نفسي بيده إن هذا وشيعته هم الفائزون يوم القيامة، ثم إنه أولكم إيمانا، وأوفاكم بعهد الله، وأقومكم بأمر الله، وأعدلكم في الرعية، وأقسمكم بالسوية، وأعظمكم عند الله مزية.
قال: ونزلت: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية)(14) إلى آخره.
قال: وكان أصحاب محمد (ص) إذا أقبل علي عليه السلام قالوا: قد جاء خير البرية(15).
وروى جلال الدين السيوطي وهو من أكبر علمائكم وأشهرهم، حتى قالوا فيه: بأنه مجدد طريقة السنة والجماعة في القرن التاسع الهجري، كما في كتاب (فتح المقال).
روى في تفسيره (الدر المنثور) عن ابن عساكر الدمشقي، أنه روى عن جابر بن عبدالله الأنصاري أنه قال: كنا عند رسول الله (ص) إذ دخل على علي بن أبي طالب (ع)، فقال النبي (ص): والذي نفسي بيده، إن هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة، فنزل: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية).
وكذلك، جاء في " الدر المنثور " في تفسير الآية الكريمة، عن ابن عدي، عن ابن عباس، أنه روي: لما نزلت الآية المذكورة قال النبي (ص) لعلي: تأتي أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيين.
وروى ابن الصباغ المالكي في كتابه الفصول المهمة صفحة 122 عن ابن عباس، قال: لما نزلت الآية (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية) قال النبي (ص) لعلي: هو أنت وشيعتك، تأتي يوم القيامة أنت وهم راضين مرضيين، ويأتي أعداؤك غضابا مقمحين.
ورواه ابن حجر في الصواعق باب 11 عن الحافظ جمال الدين، محمد بن يوسف الزرندي المدني، وزاد فيه: فقال علي (ع): من عدوي؟ قال (ص): من تبرأ منك ولعنك.
ورواه العلامة السمهودي في " جواهر العقدين " عن الحافظ جمال الدين الزرندي أيضا.
وروى المير سيد علي الهمداني الشافعي وهو من كبار علمائكم في كتابه " مودة القربى " عن أم سلمة أم المؤمنين وزوجة النبي الكريم (ص) أنها قالت: قال رسول الله (ص): يا علي، أنت وأصحابك في الجنة، أنت وشيعتك في الجنة.
ورواه عنها ابن حجر في الصواعق أيضا.
وروى الحافظ ابن المغازلي الشافعي الواسطي في كتابه " مناقب علي بن أبي طالب (ص) " بسنده عن جابر بن عبدالله، قال: لما قدم علي بن أبي طالب بفتح خيبر قال له النبي (ص): يا علي، لولا أن تقول طائفة من أمتي فيك ما قالت النصارى في عيسى بن مريم لقلت فيك مقالا لا تمر بملأ من المسلمين إلا أخذوا التراب من تحت رجليك وفضل طهورك، يستشفون بهما، ولكن حسبك أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي، وأنت تبرئ ذمتي وتستر عورتي، وتقاتل على سنتي، وأنت غدا في الآخرة أقرب الخلق مني، وأنت على الحوض خليفتي، وإن شيعتك على منابر من نور مبيضة وجوههم حولي، أشفع لهم، ويكونون في الجنة جيراني، وإن حربك حربي، وسلمك سلمي(16).
وصلنا إلى هنا وارتفع صوت المؤذن يعلن وقت العشاء فقطعنا الكلام، وسكتنا عن قراءة ذيل الرواية، والخبر فإنه طويل، فقام الإخوان العامة وتهيؤا للصلاة، وذهب السيد عبدالحي ليؤم المسلمين في المسجد.
وحينما رجع من المسجد جاء بتفسير " الدر المنثور " وكتاب " مودة القربى " ومسند الإمام أحمد بن حنبل، ومناقب الخوارزمي، وقال ذهبت بعد الصلاة إلى البيت وجئتكم بهذه الكتب التي تستندون بها في محاورتكم، حتى نراجعها عند الضرورة.
فتناولت منه الكتب وشكرته وبقيت الكتب عندنا إلى آخر ليلة من ليالي الحوار، ثم استخرجت الأخبار والأحاديث التي نقلتها من تلك الكتب، وكلما قرأت الأحاديث التي مر ذكرها من كتبهم، كنت ألاحظ وجوه المشايخ تنخطف، وألوانه تتغير، والخجل يبدو ويعلو على وجوههم، لأنهم كانوا يحسون بالفضيحة والنكسة أمام أتباعهم الحاضرين.
وقرأنا في كتاب " مودة القربى " إضافة ما نقلناه، حديث آخر في الموضوع هو:
روي أن رسول الله (ص) قال: يا علي، ستقدم على الله أنت وشيعتك راضين مرضيين، ويقدم عليه عدوك غضابا مقمحين.
وبعده قلت: إن هذا بعض الدلائل المحكمة والمؤيدة بكلام الله سبحانه وتعالى وبالأخبار المعتبرة والمقبولة عندكم، ولو نقلتها لكم كلها لطال الكلام، ولكن في ما ذكرنا كفاية لمبتغي الحق بغير غواية.
وأرجو بعد هذا أن لا تكرروا ذلك الكلام الفارغ الوهمي الواهي، بأن مؤسس مذهب الشيعة عبدالله بن سبأ اليهودي
فقد اندفع هذا التهام وارتفع الإيهام، بالقرآن الحكيم وحديث النبي العظيم (ص)، ولقد تبين لكم أن ما كنتم تظنوه في حق الشيعة، إن هو إلا أباطيل الخوارج وأكاذيب النواصب من بني أمية وغيرهم.
ومع الأسف... أنتم العلماء قد ألقيتم هذه الأقاويل إلى أتباعكم من عامة الناس، وألبستم عليهم الحق والحقيقة، من حيث تعلمون أو لا تعلمون.
والآن عرفتم بأن الشيعة محمديون وليسوا بيهود، وإن إطلاق اسم: " الشيعة " على من تولى عليا وأحبه ونصره إنما بدا من نبي الإسلام وهادي الأنام محمد (ص)، وقد صرح به كرارا بين أصحابه حتى صار علما لموالي عليا (ع) وأنصاره، كما سمعتم الروايات والأخبار التي نقلتها لكم.
وجاء في كتاب " الزينة " لأبي حاتم الرازي، وهو منكم قال: إن أول اسم وضع في الإسلام علما لجماعة على عهد رسول الله (ص) كان اسم " الشيعة " وقد اشتهر أربعة من الصحابة بهذا الاسم في حياة النبي الأكرم (ص) وهم:
1ـ أبو ذر الغفاري 2ـ سلمان الفارسي 3ـ المقداد بن الأسود الكندي 4ـ عمار بن ياسر.
فأدعوكم لتتفكروا، كيف يمكن أن يشتهر أربعة من أصحاب رسول الله (ص) الأقربين وحواريه، بلقب أو اسم " الشيعة " بمرأى ومسمع منه (ص) وهو لم يمنعهم من تلك البدعة كما يزعم البعض؟!
ولكن نستنبط من مجموع الأخبار والأحاديث الواردة في الموضوع أن أولئك الأصحاب المخلصين، سمعوا النبي (ص) يقول: شيعة علي خير البرية، وهم الفائزون. لذلك افتخروا بأن يكونوا منهم، ويشتهروا بين الأصحاب باسم " لشيعة ".
مقام هؤلاء الأربعة في الإسلام
يروي علمائكم عن النبي (ص) أنه قال: " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم " وقد كتب أبو الفداء في تاريخه ـ وهو من مؤرخيكم ـ: أن هؤلاء الأربعة امتنعوا من البيعة لأبي بكر يوم السقيفة، وتبعوا علي بن أبي طالب (ص)، فلماذا لا تجعلوا عملهم حجة؟! مع ما نجد في كتبكم أن هؤلاء كانوا من المقربين والمحبوبين عند النبي (ص)، لكن نحن تبعناهم واقتدينا به وصرنا شيعة علي (ع)، فنحن مهتدون بحديث رسول الله (ص) الواصل عن طريقكم: بأيهم اقتديتم اهتديتم.
ولكي نعرف جاه ومقام هؤلاء الأربعة عند الله تعالى وعند رسوله (ص)، أنقل لكم بعض الأخبار المروية عن طرقكم في حقهم:
1ـ روى الحافظ أبو نعيم في المجلد الأول من حلية الأولياء ص 172 وابن حجر المكي في كتابه الصواعق المحرقة في الحديث الخامس من الأحاديث الأربعين التي نقلها في فضائل علي بن أبي طالب (ع) قال: عن الترمذي والحاكم،
عن بريدة: أن رسول الله (ص) قال: إن الله أمرني بحب أربعة، وأخبرني أنه يحبهم، فقيل من هم؟ قال (ص): علي بن أبي طالب، وأبو ذر والمقداد، وسلمان(17).
2ـ نقل ابن حجر أيضا الحديث 39 عن الترمذي والحاكم عن أنس بن مالك، أن النبي (ص) قال: الجنة تشتاق إلى ثلاثة: علي وعمار وسلمان.
فكيف أن هؤلاء الأربعة الذين هم من خواص أصحاب النبي (ص) وقد أحبهم الله ورسوله، ومن أهل الجنة، خالفتموهم ولم يكن عملهم حجة عندكم؟!
أليس من المؤسف أن تحصروا أصحاب النبي (ص) في الذين دبروا فتنة السقيفة وانخرطوا في تلك اللعبة الجاهلية، وقبلوا منتخب المتآمرين وتركوا حجة ربة العالمين؟!
وأما بقية الصحابة الأخيار، الذين خالفوا ذلك التيار، ورفضوا ذلك القرار، إذ وجدوه جائرا مخالفا لنص الواحد القهار، فساروا على الخط الذي رسمه النبي المختار (ص) لسعادة المؤمنين الأحرار الأبرار، لم تعتبروهم ولم تقتدوا بهم، فكأنكم حرفتم عمليا حديث النبي (ص) " أصحابي كالنجوم... " بأن " بعض أصحابي كالنجوم "؟!
التشيع ليس حزبا سياسيا
وأما قولك: إن مذهب الشيعة مذهب سياسي، والإيرانيون المجوس اتخذوا التشيع وسيلة للفرار من سلطة العرب، كلام بلا دليل وهو من أقاويل أسلافكم، ونحن أثبتنا أن التشيع مذهب إسلامي، وهو شريعة خاتم الأنبياء وامتداد للإسلام.
والنبي (ص) أمر أمته بمتابعة علي ومشايعته في الأمور والحوادث، بأمر من الله سبحانه وتعالى، ونحن نتبع عليا أمير المؤمنين وأبناءه الطاهرين (ع)، ونعمل بأوامرهم حسب أمر النبي المطاع الأمين (ص)، ونرى في ذلك نجاتنا.
ولو تدبرنا التاريخ ودرسنا الحوادث بعد حياة النبي (ص) لوجدناه أن أبرز قضية سياسية وأظهر حادثة انقلابية هي مؤامرة السقيفة وانتخابهم الخليفة. ومع ذلك لا تطلقون على أولائك المجتمعين في السقيفة والهمج الذين تبعوهم كلمة: " حزب سياسي " ولكن تتهمون الشيعة المؤمنين المخلصين بأنهم حزب سياسي!!
وكم عندكم أحاديث معتبرة أن النبي (ص) يأمر الأمة بمتابعة علي بن أبي طالب وأهل بيته الكرام، وخاصة عند التباس الأمر واختلاف الرأي، ولا نجد حديثا واحدا من الرسول (ص) يأمر الأمة بتشكيل السقيفة وانتخابهم الخليفة بعده، ولو كان ذلك من حق الناس، لما نص على أخيه وصنوه علي (ع) من بعده، ولما عينه خليفة بأمر من الله (عز وجل)، في يوم الإنذار ويوم الغدير وغيره.
وأما بالنسبة لتشيع الإيرانيين الذي تزعم أنت وكثير من الذين أغوتهم الدعايات الأموية، بأنه كان من غرض سياسي.
أقول إن من كان له أدنى اطلاع في القضايا السياسية يعرف، أن قوما إذا اتخذوا مذهبا وسيلة للوصول إلى أغراضهم وأهدافهم السياسية تركوا ذلك المذهب ولم يعبئوا به حينما يصلون إلى أهدافهم. والحال أن التاريخ يشهد في حق الإيرانيين الذين تمسكوا بالتشيع واتبعوا آل محمد (ص) وأحبوهم ونصروهم وضحوا بالغالي والنفيس من أجلهم أكثر من ألف عام، وإلى يومنا هذا هم كذلك يجاهدون ويضحون في سبيل إعلاء كلمة الحق والعدل وانتشار راية: لا إله إلا الله، محمد رسول الله (ص) علي ولي الله، فهذا التفاني طيلة ألف عام وأكثر، يستحيل أن يكون لغرض سياسي دنيوي، وإنما يكون لهدف معنوي أخروي، والتشيع عند معتنقيه من الإيرانيين وغيره هدف لا وسيلة!
أسباب تشيع الإيرانيين
أما الأسباب التي دعت الإيرانيين إلى التمسك بمذهب الشيعة والالتزام بولاء أهل البيت، متابعتهم، والسير على منهج علي بن أبى طالب وأبنائه الطيبين، والتفاني في ذلك، هي:
1ـ عدم وجود العصبيات القبلية والنزعات الطائفية والدواعي العشائرية عندهم، لأنهم لم يكونوا ينتمون لأي قبيلة من قبائل قريش أو غيرها الموجودة في الجزيرة العربية، وبعيدا عن كل هذه، وجدوا الحق في علي بن أبي طالب عليه السلام فانحازوا إليه، ولم تصدهم العصبيات والنزعات عن طريق أهل البيت عليهم السلام ومذهبهم.
2ـ الذكاء والتعقل عندهم(18)، يمنعهم من التعصب الباطل والتقليد الأعمى، فهم أهل تحقيق وتدقيق في أمر الدين والعبادة، لذلك كانت المجوسية عندهم رخوة ومتزلزلة، ولهذا السبب أسلمت أكثر بلادهم من غبر حرب وفتحت من غير مقاومة، وبعد فتح بلادهم تركوا المجوسية من غير كره وإجبار واعتنقوا الإسلام بالحرية والاختيار، لأنهم عاشروا المسلمين وحققوا حول الإسلام، وعرفوا حقانيته، فتمسكوا به وأصبح الإسلام دينهم الذي كانوا يضحون أنفسهم دونه، ويقدمون الغالي والنفيس من أجله، ويجاهدون في سبيل الله تحت راية الإسلام مع العرب وغيرهم من المسلمين جنبا لجنب في صف واحد.
وبعدما دخلوا في الإسلام، واجهوا مذاهب شتى وطرائق قددا، كل منهم يدعي الحق وينسب الآخرين إلى الضلال فدققوا وفتشوا عن الحقيقة، وفحصوا وحققوا عن الحق والواقع، فوجدوه في مذهب الشيعة الامامية الاثنى عشرية، فتمسكوا به وانعقدت قلوبهم على معالمه، فتبعوا عليا وأبناءه المعصومين، ورضوا بهم أئمة وقادة وسادة، لأن الله تعالى جعلهم كذلك.
3ـ إن عليا عليه السلام كان يعرف حقوق الإنسان وحقوق الأسرى في الإسلام، لأن النبي (ص) كان يوصي المسلمين بالأسرى ويقول: أطعموهم مما تطعمون، وألبسوهم مما تلبسون، ولا تؤذوهم... إلى آخره، فكان علي عليه السلام يلتزم بتطبيق هذه الحقوق، وأما غيره فما كان يعرفها! وإذا كان يعرفها ما كان يلتزم بها.
وحينما جاءوا بأسرى الإيرانيين إلى المدينة، عاملهم بعض المسلمين بما لا يليق، فقام علي عليه السلام بالدفاع عن ابنتي الملك حين أمر الخليفة أبو حفص ببيعهن، ولكن عليا عليه السلام منعه وقال:إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منع من بيع الملوك وأبنائهم وبناتهم، وإنما تنتخب كل واحدة من هاتين رجلا من المسلمين فتتزوج منه.
وعلى هذا انتخبت إحداهن ـ وهي " شاه زنان " ـ محمد بن أبي بكر، وانتخبت " شهربانو " ـ وهي الأخرى ـ الإمام الحسين عليه السلام.
وذهب كل منهما مع زوجته بعقد شرعي ونكاح إسلامي إلى بيته، فولدت شاه زنان من محمد ولده " القاسم " وأصبح من فقهاء المدينة وهو والد " أم فروة " والدة الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام، وولدت شهربانو الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام.
فلما رأى بعض الإيرانيين وسمع آخرون منهم بزواج ابنتي يزدجرد واحترام الإمام علي عليه السلام لهما، شكروا هذا الموقف التاريخي العظيم، والقرار الإنساني الجسيم، من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.
وكان هذا من أهم الأسباب التي دعت الإيرانيين إلى تحقيق أكثر حول شخصية أبي الحسن عليه السلام، وعلي عليه السلام هو الرجل المقدس الذي كلما زاد الإنسان معرفة به، زاد حبا له وتعظيما.
4ـ ارتباط الإيرانيين وعلاقتهم بسلمان الفارسي وهو منهم، ثم لسابقته الفاخرة في الإسلام، ومكانته المرموقة عند النبي (ص)، حتى عده من أهل بيته، في الحديث الذي اشتهر عنه (ص) في كتب الشيعة والسنة انه قال (ص): سلمان منا أهل البيت(19).
وكان ينادى من ذلك اليوم: بسلمان المحمدي.
ولسائر فضائله ومناقبه أصبح محور الإيرانيين ومرجعهم في أمور الدنيا والدين.ولما كان سلمان من شيعة أهل البيت والموالين لآل محمد (ص) ومن المخالفين لاجتماع السقيفة والخليفة المنتخب فيها، أرشد قومه وهداهم إلى مذهب الشيعة، ودعاهم إلى التمسك بحبل الله المتين وصراطه المستقيم، وهو ولاية وإمامة أبى الحسن أمير المؤمنين، لأنه شهد يوم الغدير، وبايع عليا عليه السلام بالخلافة، وسمع أحاديث عديدة من فم النبي الكريم (ص) في شأن أبي الحسن وسمع كرارا حديث النبي (ص) من أطاع عليا فقد أطاعني، ومن أطاعني فقد أطاع الله، ومن خالف عليا فقد خالفني، ومن خالفني فقد خالف الله(20).
5ـ لو تعمقنا في الموضوع وتفحصنا التاريخ للوصول إلى جذوره، لوجدنا أن من أهم أسباب التفاف الإيرانيين حول علي وبنيه عليهم السلام، وابتعادهم عن الغاصبين لحقوق آل محمد (ص) هو: سوء معاملة الخليفة عمر بن الخطاب مع الإيرانيين بعدما أسلموا وهاجر كثير منهم إلى المدينة المنورة، فكانت سيرته معهم خلاف سيرة النبي (ص) مع سلمان، وكانت سيرته معهم تصرفات شخصية تنبئ عن حقد دفين في قلبه لهم، وكان يحقرهم ويمنعهم من الحقوق الاجتماعية التي منحها الله تعالى لكل إنسان(21).
أما معاملة الإمام علي عليه السلام معهم فقد كانت حسنة كمعاملة النبي (ص) لسلمان الفارسي.