ولهذا كان علي كرم الله وجهه يقول: أنا كتاب الله الناطق والقرآن كتاب الله الصامت. انتهى مضمون مقال وخلاصة مقال قطب الدين.
أقول: كل عاقل منصف، وكل صاحب وجدان وإيمان يعرف أن عمر بن الخطاب ارتكب ظلما كبيرا بمنعه النبي (ص) أن يكتب لأمته كتابا لن يضلوا بعده أبدا!!
وأما قولك أيها الشيخ: إن أبا بكر وعمرا أوصيا ولم يمنعهما أحد من الصحابة: فهو قول صحيح وهذا الأمر يثير تعجبي واستغرابي. كما يهيج حزني ويبعث الألم في قلبي، فقد اتفق المؤرخون والمحدثون على إن أبا بكر أملا وصيته على عثمان ، وهو كتبها في محضر بعض أصحابه وعرف عمر بن الخطاب ذلك ولم يمنعه، وما قال له: لا حاجة لنا بوصيتك وعهدك، حسبنا كتاب الله!
ولكنه مع رسول الله (ص) عن الوصية وكتابة عهده لأمته، قائلا: أنه يهجر.. كفانا أو حسبنا كتاب الله!! وقد كان ابن عباس وهو حبر الأمة كلما يتذكر ذلك اليوم يبكي ويقول: إن الرزية كل الرزية: ما حال بين رسول الله (ص) و بين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم / صحيح البخاري بحاشية السندي: ج4 / كتاب المرضى باب قول المريض قوموا عني وج 4 / 271 / باب كراهية الخلاف.
نعم كان ابن عباس يتأسف ويبكي، ويحق لكل مسلم منصف أن يتأسف ويبكي، وأن يتألم ويتأثر ويتغير، ونحن على يقين أنهم لو تركوا رسول الله (ص) يكتب وصيته، لبين أمر الخلافة من بعده وعين خليفته مؤكدا عليهم بأن يطيعوه ولا يخالفوه ، ولذكرهم كل ما قاله في هذا الشأن وفي شأن وصيه وخليفته ووارثه من قبل. والذين منعوا من ذلك، كانوا يطمعون في خلافته كما كانوا يعلمون أنه يريد أن يسجل خلافة ابن عمه علي بن أبي طالب، ويكتبه ويأخذ منهم العهد والبيعة له في آخر حياته، كما أخذ عليهم ذلك في يوم الغدير، لذلك خالفوه بكل وقاحة ومنعوه من ذلك بكل صلافة!
الشيخ عبد السلام: كيف تدعي هذا ومن أين تبين لك أنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يوصي في أمر الخلافة ويعين علي بن أبي طالب لهذا الأمر من بعده ؟!
قلت: من الواضح أنه (ص) بين جميع أحكام الدين للمسلمين، وما ترك صغيرة ولا كبيرة من الفرائض السنن إلا بينها، حتى قال تعالى في كتابه: (اليوم أكملت دينكم)(94)، فكان من هذه الجهة مرتاح البال، ولكن الذي كان يشغل باله هو موضوع خلافته وولي الأمر بعده، لأنه (ص) كان يعرف عداوة كثير من الناس لعلي بن أبي طالب، وكان يعلم حقدهم وحسدهم له (ص) وكان يعرف طمع بعض الصحابة، وحرصهم على خلافته في أمته، لذلك كان يتخوف من مناوئي الإمام علي عليه السلام ومخالفيه، أن لا يخضعوا لإمارته ولا يقبلوا خلافته، فأراد أن يؤكدها عليهم في آخر ساعات حياته، إضافة على ما بينه في هذا الأمر طول حياته كرارا ومرارا، كما روى الغزالي في كتابه " سر العالمين " في المقالة الرابعة، أنه (ص) قال: إيتوني بدوات وبياض لأزيل عنكم إشكال الأمر، وأذكر لكم من المستحق لها بعدي.
ثم كلنا نعلم أن الأمر الذي آل اختلاف المسلمين بعد رسول الله (ص) وكان سبب سفك وإزهاق النفوس، إنما هو أمر الخلافة لا غير، فتبين أنه (ص) أراد أن يوضح أمر الخلافة لا غير، فيتبين أنه (ص) أراد أمر الخلافة للمسلمين ويوصي بها لرجل منهم يستحقها، حتى يبايعوه ويخضعوا لإمارته وخلافته ولكي لا يؤول أمرهم إلى التخاصم والتنازع، ولا يقعوا من بعده في هوة الاختلاف ومزلة الانحراف.
ثم إن النبي (ص) في مواطن كثيرة عين وصيه وعرفه للناس، وقد نقلنا لكم بعض الأخبار والأحاديث في هذا الشأن ولا حاجة لتكرارها.
ولا ينكر أحد من المسلمين المنصفين بأن النبي (ص) عين عليا وصيا لنفسه وأودعه الوصايا التي أراد أن يكتبها حتى لا يضلوا من بعده أبدا، ولكنهم منعوه ورفضوها بقولهم: إنه ليهجر. كفانا أو حسبنا كتاب الله!!
الشيخ عبد السلام: خبر تعيين النبي (ص) عليا وصيا لنفسه غير متواتر فلا يصح الاستناد به.
قلت: هو خبر متواتر عن طريق العترة النبوية الطاهرة والأمر ثابت من غير شك ولا ترديد.
وأما عن طرقكم، فربما لم يكن لفظه متواترا ولكن معناه قد تواتر عن طرقكم في ألفاظ متفاوتة وجمل متعددة.
ثم إذا كان التواتر عندكم مهما إلى هذا الحد بحيث لو كان الخبر واصلا عن طريق موثوق وبسند حسن وقد صححه العلماء المتخصصون، ومع ذلك ترفضونه بحجة أنه غير متواتر، فأسألكم هل كان حديث: " لا نورث ما تركناه صدقة " متواترا؟! لا .. بل هو خبر واحد رواه أبو بكر(95)، وصدّقه عصابة كانت لهم منفعة ومصلحة في تصديقهم إياه!
ولكن في كل عصر ينكره ملايين المسلمين ويرفضه آلاف العلماء الصالحين.
وقد أنكره الإمام علي (ع) وهو باب علم الرسول، ورفضته فاطمة الزهراء (ع) بضعة رسول الله الطاهرة المطهرة التي عصمها الله من الزلل وطهرها من الرجس والدنس بالدلائل القاطعة والبراهين الساطعة المستندة على كتاب الله الحكيم والمنطق القويم والعقل السليم.
ولو لم يورث الأنبياء فكيف قال النبي (ص): لكل نبي وصي ووارث، وأن عليا وصيي ووارثي؟(96)
وأثبتنا أن المقصود وراثة المال والمقام. وحتى إذا كان المقصود وراثة العلم فوارث علم النبي (ص) أحق بخلافته من فاقد علمه.
والجدير بالذكر أن أبا بكر وعمر في كثير من القضايا رجعا إلى الإمام علي (ع) وعملا برأيه وأخذا بقوله، ولكن في هذه القضية بالذات خالفوه، ولم يقبلوا حتى شهادته في فدك بأنها منحة رسول الله (ص) لفاطمة (ع)، فرفضوا شهادته وشتموه بقولهم: إنما هو ثعالة شهيده ذنبه، مرب لكل فتنة الخ.
الحافظ: إن أبا بكر وعمر كانا في غنى عن علي وعلمه ولم يرجعا إليه في بعض الأحكام لجهلهما بالحكم بل كانا يحترمانه ويشاورانه.
قلت: إن قولك هذا منبعث عن حبك للشيخين وقد قالوا: حب الشيء يعمي ويصم.
وإن قولك رأي شخصي لم يقل به قائل، بل هو مخالف لصريح ما نقله أعلامكم عن نفس أبي بكر وعمر.
وإليكم نماذج منها:
الحكم في امرأة ولدت لستة أشهر
نقل المحدثون منهم أحمد بن حنبل في مسنده والمحب الطبري في ذخائر العقبى وابن أبي الحديد في شرح النهج والشيخ سليمان القندوزي في ينابيع المودة / الباب السادس والخمسون فصل: في ذكر كثرة علم علي، قال: وروي أن عمر أراد رجم المرأة التي ولدت لستة أشهر! فقال علي (ع) في كتاب الله: (وَ حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً)(97) ثم قال:(وفصاله في عامين)(98) فالحمل ستة أشهر، فتركها عمر، وقال عمر: لو لا علي لهلك عمر. قال القندوزي: أخرجه أحمد والقلعي وابن السمان.
ونقل القندوزي في الباب قبل هذا الخبر بقليل فقال:
وأخرج أحمد [ ابن حنبل ] في المناقب: أن عمر بن الخطاب إذا أشكل عليه شيء اخذ من علي رضي الله عنه.
ولو تصفحنا كتب التاريخ والحديث لوجدنا كثيرا من هذه القضايا المشكلة التي كان يعجز عن حكمها الخلفاء فيرجعون فيها إلى علي (ع) ويأخذون بقوله ويعملون برأيه.
فيا أيها العلماء! وأيها الجمع! فكروا: لماذا رفضوا شهادة علي (ع) في أمر فدك ولم يقبلوا حكمه في قضية فاطمة (ع) وقالوا ما قالوا وافتروا عليه وشتموه!!
ثم إذا كان الحديث الذي رواه أبو بكر صحيحا وكان قد سمعه من رسول الله (ص) فلماذا لم يحكم في سائر ممتلكات النبي (ص) بحكم فدك ولم يضمها إلى بيت المال لعامة المسلمين، أو يجعلها صدقات ينتفع بها المساكين.
بل ترك حجرة فاطمة (ع) لها، وترك حجرات زوجات الرسول لكل واحدة منهن حجرتها، من باب الإرث(99).
إضافة على هذا: إذا كان أبو بكر يؤمن بما يقول ويعتقد بالحديث الذي رواه: " نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة " وعلى هذا المبنى أخذوا فدك وأخرجوا عمال فاطمة منها. فلماذا رد فدك ـ بعد أيام ـ على فاطمة وكتب لها كتابا في ذلك إلا أن عمر أخذ منها الكتاب ومزقه، ومنعها من التصرف في فدك؟!
الحافظ: هذا كلام جديد لم نسمع به من قبل! فمن أي مصدر وبأي دليل تقول: بأن أبا بكر (رض) رد فدك على فاطمة ثم منعها عمر في خلافة أبي بكر ومزق كتابه؟!!
قلت: يبدو أن مشاغل الحافظ كثيرة بحيث لا يجد فرصة ليطالع كتب أعلام السنة من أهل مذهبه ونحلته، وإلا لما كان هذا الخبر جديدا على مسامعه، فقد روى هذا الخبر كثير من المؤرخين والمحدثين منهم علي بن برهان الدين الشافعي في السيرة الحلبية: ج3/391وابن أبي الحديد في شرح النهج: ج16 / 247/ ط دار إحياء التراث العربي / قال: روى إبراهيم بن سعيد الثقفي عن إبراهيم بن ميمون، قال: حدثنا عيسى بن عبد الله بن محمد بن علي بن أبي طالب (ع) عن أبيه عن جده عن علي (ع) قال: جاءت فاطمة (ع) إلى أبي بكر و قالت: إن أبي أعطاني فدك، و علي و أم أيمن يشهدان فقال: ما كنت لتقولي على أبيك إلا الحق قد أعطيتكها، و دعا بصحيفة من أدم فكتب لها فيها، فخرجت فلقيت عمر فقال: من أين جئت يا فاطمة؟ قالت جئت من عند أبي بكر. أخبرته أن رسول الله (ص) أعطاني فدك و أن عليا و أم أيمن يشهدان لي بذلك فأعطانيها و كتب لي بها. فأخذ عمر منها الكتاب. ثم رجع إلى أبي بكر، فقال: أعطيت فاطمة فدك و كتبت بها لها؟ قال: نعم فقال: إن عليا يجر إلى نفسه، و أم أيمن امرأة، و بصق في الكتاب فمحاه و خرقه!
والعجب إن عمر الذي كان بهذه الشدة في قضية فدك أيام خلافة أبي بكر، لما وصلت أيامه وصارت الخلافة في يده رد فدك على أولاد فاطمة وكذلك بعض الخلفاء من بعده!
الحافظ: إن هذا الخبر من أعجب الأخبار لتناقضه، وإني حائر في تصديقه ورده!
قلت: لا تتحير ولا ترد الخبر بل راجع كتاب وفاء الوفاء في تاريخ مدينة المصطفى للعلامة السمهودي وهو من أعلامكم، ومعجم البلدان لياقوت الحموي.
رويا أن أبا بكر أخذ فدك من فاطمة، ولكن عمر في خلافته رده على العباس وعلي بن أبي طالب، فإذا كان فدك فيء المسلمين وقد أخذه أبو بكر حسب الحديث الذي سمعه من النبي (ص)، فبأي سبب رده عمر وجعله في يد علي والعباس دون سائر المسلمين؟!
الشيخ عبد السلام: لعله جعلهما من قبله حتى يأخذا حاصله ويصرفاه في مصالح المسلمين.
قلت: ولكن ظاهر بعض العبارات التاريخية أنهما ادعيا عند عمر ميراثهما فأعطاهما فدك وكانا يتصرفان فيها تصرف المالك في ملكه(100).
الشيخ عبد السلام: لعل مراد المؤرخين من عمر هو عمر بن عبدالعزيز!
رد عمر بن عبد عبدالعزيز فدك
فتبسمت ضاحكا من قوله وقلت: علي (ع) والعباس ما كانا في خلافة عمر بن عبدالعزيز، وحكم عمر بن عبدالعزيز فدك على أولاد فاطمة (ع) خبر آخر وقد ذكره العلامة السمهودي أيضا، وذكره ابن أبي الحديد في شرح النهج: ج16 / 216 قال: ... فلما ولي عمر ابن عبد العزيز الخلافة الأموية كانت أول ظلامة ردها، [ أنه ] دعا الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب (ع) و قيل بل دعا علي بن الحسين (ع) فردها عليه، و كانت بيد أولاد فاطمة ع مدة ولاية عمر بن عبد العزيز.
فلما ولي يزيد بن عاتكة قبضها منهم، فصارت في أيدي بني مروان كما كانت يتداولونها، حتى انتقلت الخلافة عنهم فلما ولي أبو العباس السفاح ردها على عبد الله بن الحسن بن الحسن، ثم قبضها أبو جعفر لما حدث من بني الحسن ما حدث، ثم ردها المهدي ـ ابنه ـ على ولد فاطمة (ع) ثم قبضها موسى بن المهدي و هارون أخوه، فلم تزل أيديهم حتى ولي المأمون.
المأمون ورده فدك
نقل ابن أبي الحديد في شرح النهج: ج16 في صفحة 217: قال أبو بكر [ الجوهري ] حدثني محمد بن زكريا قال: حدثني مهدي بن سابق قال: جلس المأمون للمظالم فأول رقعة وقعت في يده نظر فيها و بكى، و قال للذي على رأسه: ناد أين وكيل فاطمة؟ فقام شيخ عليه دراعة و عمامة و خف تعزى، فتقدم فجعل يناظره في فدك و المأمون يحتج عليه و هو يحتج على المأمون، ثم أمر أن يسجل لهم بها، فكتب السجل و قرئ عليه، فأنفذه، فقام دعبل إلى المأمون فأنشده الأبيات التي أولها:
أصبح وجه الزمان قد ضحكا | برد مأمون هاشم فدكا |
كان رسول الله (ص) أعطى ابنته فاطمة رضي الله عنها فدكا وتصدق عليها بها، وأن ذلك كان أمرا ظاهرا معروفا عند آله عليهم الصلاة والسلام.
فدك كانت نحلة فاطمة (ع)
لقد ثبت في موضعه أن فدكا كانت نحلة لفاطمة أنحلها رسول الله (ص) وذا كان بعض الخلفاء يردونها على أولاد فاطمة وكان آخرون يغصبونها اقتداء بأبي بكر!!
الحافظ: إن كانت فدكا، نحلة أنحلها رسول الله فاطمة، فلماذا ادعتها من بابا الإرث ولم تدعيها نحلة؟
قلت: لا شك أنها ادعت فدكا بادئ الأمر من بابا النحلة وأقامت شهودا على ذلك، فلما ردوا شهودها ادعتها من باب الإرث.
الحافظ: هذا كلام جديد لم نسمع به من قبل ولعلك مشتبه!
قلت: إني على يقين فيما أقول ولست مشتبها، ولم تنفرد الشيعة بهذا الخبر بل نقله كثير من أعلامكم منهم: علي بن برهان الدين في كتابه السيرة الحلبية، والفخر الرازي في تفسير الكبير، وياقوت الحموي في معجم البلدان، وابن أبي الحديد المعتزلي في شرح النهج: ج16 / 214 / ط. دار إحياء التراث العربي، يروي عن أبي بكر الجوهري، قال: و روى هشام بن محمد عن أبيه قال: قالت فاطمة لأبي بكر : أن أم أيمن تشهد لي أن رسول الله (ص) أعطاني فدك، فقال لها يا ابنة رسول الله .... إن هذا المال لم يكن للنبي (ص)، و إنما كان مالا من أموال المسلمين(101)، يحمل النبي به الرجال و ينفقه في سبيل الله فلما توفي رسول الله ص وليته كما كان يليه.
قالت: و الله لا كلمتك أبدا! قال: و الله لا هجرتك أبدا! قالت: و الله لأدعون الله عليك! قال: و الله لأدعون الله لك.
فلما حضرتها الوفاة أوصت ألا يصلي عليها فدفنت ليلا... الخ.
توجيه العامة عمل أبي بكر
الحافظ: نحن نعلم أن أبا بكر أسخط فاطمة رضي الله عنها، وماتت بنت رسول الله (ص) وهي واجدة عليه، ولكنه أبا بكر برئ، لأنه عمل بحكم الله وطالبها بالشهود لإثبات حقها، وأنت جد خبير بأنه يجب في هذه القضايا أن يشهد رجلان أو رجل وامرأتان، وهذا حكم عام وفاطمة جاءت برجل وامرأة وما أكملت الشهود، ولذا لم يصدر أبو بكر الحكم لها، فغضبت!!
قلت: فلنختم مجلسنا وندع الجواب إلى الليلة القابلة فإن الحاضرين تعبوا، وأخاف أن يطول الكلام فيملوا.
النواب: كلنا شوق وشغف لنعرف حقيقة الأمر، فإن موضوع فدك مهم جدا وحساس، وإذا أنتم ما تعبتم، فنحن راغبون إلى الاستماع لكلامكم وجوابكم.
قلت: أنا لا أتعب من هذه المجالس والمناقشات الدينية أبدا، بل مستعد أن أبقى معكم حتى الصباح.
وأما الجواب: فقد قال الحافظ: بأن أبا بكر عمل بحكم الله وطالب فاطمة بالشهود لإثبات حقها!
قلت: لقد كانت فاطمة (ع) متصرفة في فدك، وكانت في يدها فبأي شرع وقانون يطالب ذو اليد بإقامة الشهود على إثبات حقه فيما يكون تحت تصرفه وفي يده ؟! فإن الأصل المجمع عليه في قانون القضاء الإسلام ي أن ذو اليد هو المالك فإذا ادعى أحد على ما في يده فعلى المدعي إقامة الشهود والبينة، وليس على المنكر إلا اليمين، فأبو بكر كان مدعيا لفدك التي كانت في يد فاطمة (ع) وتحت تصرفها، فحينئذ كان عليه أن يأتي بالبينة لإثبات ما يدعي، وليس له أ، يطالب السيدة الزهراء (ع) بالشهود والبينة.
ولكن.. إذا كان خصمي حاكمي فكيف أصنع؟!
فأبو بكر خالف حكم الله سبحانه وسحق القانون وقلب أصول القضاء!!
وأما قول الحافظ: بأن الحق يثبت بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين ، وهذا حكم عام.
فأقول: ما من عام إلا وقد خص.
الحافظ: هذه القاعدة لا تجري في القضاء، فإن قوانين القضاء تجري على الأغنياء والفقراء وعلى الفساق والأولياء، على حد سواء، ولا يستثنى حتى الأنبياء.
قلا: إن هذا الكلام يخالف سنة رسول الله (ص) وسيرته المسجلة في صحاحكم، والثابتة في مسانيدكم.
خزيمة.. ذو الشهادتين
ذكر ابن أبي الحديد ترجمة ذي الشهادتين في شرح النهج:ج10 / 108 و109 ط دار إحياء التراث العربي / قال: هو خزيمة بن ثابت بن الفاكه بن ثعلبة الخطمي الأنصاري من بني خطمة من الأوس، جعل رسول الله (ص) شهادته كشهادة رجلين، لقصة مشهورة الخ.
والقصة كما ذكرها الأعلام في ترجمته وفي كتب الحديث وأنا أنقلها من كتاب أسد الغابة لابن الأثير قال: روى عنه ابنه عمارة أن النبي (ص) اشترى فرسا من سواء بن قيس المحاربي، فجحده سواء! فشهد خزيمة بن ثابت للنبي (ص) فقال له رسول الله: ما حملك على الشهادة، ولم تكن حاضرا معنا؟
قال: صدقتك بما جئت، وعلمت أنك لا تقول إلا حقا.
فقال رسول الله (ص): من شهد له خزيمة أو عليه فهو حسبه.
فما ظنك برسول الله (ص) لو كان علي يشهد عنده في قضية هل كان يصدقه أم يرده؟!
وهو القائل في حقه: " علي مع الحق والحق مع علي يدور الحق حيث ما دار علي " فكما أن النبي (ص) خصص شهادة خزيمة وأحله محل شاهدين وصارت شهادته بشهادتين، كذلك أصحاب آية التطهير الذين عصمهم الله تعالى وأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا. فقولهم لا يرد، فإن الراد عليهم كالراد على الله سبحانه، وقد أثبتنا فيما سبق أن عليا (ع) شهد لها بأن رسول الله (ص) أنحلها فدك، ولكنهم ردوا شهادته بحجة أن عليا يجر إلى نفسه، فكذبوه وصدقه الله في كتابه الحكيم بقوله: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين)(102).
الحافظ: من أين تقول هذه الآية نزلت في شأن علي كرم الله وجهه ؟
من هم الصادقون
قلت: أجمع علماء الشيعة استنادا على الروايات الواصلة عن طريق أهل البيت (ع) والعترة الهادية، بأن الصادقين هم خاتم النبيين وعلي أمير المؤمنين والعترة، وقد وافقنا كثير من أعلامكم وذهبوا إلى هذا الرأي، منهم: الثعلبي في تفسيره كشف البيان وجلال الدين السيوطي في تفسيره الدر المنثور، عن ابن عباس، والحافظ أبو سعد عبد الملك بن محمد الخركوشي في كتاب شرف المصطفى عن الأصمعي. والحافظ أبو نعيم في حلية الأولياء رووا عن النبي (ص) أنه قال: الصادقون أنا وعلي.
وقال القندوزي في ينابيع المودة / الباب التاسع والثلاثون: أخرج موفق بن أحمد الخوارزمي عن أبي صالح عن ابن عباس (رض) قال: الصادقون في هذه الآية محمد (ص) وأهل بيته. أيضا أبو نعيم الحافظ والحمويني أخرجاه عن ابن عباس بلفظه، انتهى.
وشيخ الإسلام الحمويني في فرائد السمطين والعلامة الكنجي في كفاية الطالب / الباب 62/وابن عساكر في تاريخه رووا بإسنادهم عن النبي (ص) قال: كونوا مع الصادقين أي مع علي بن أبي طالب.
وهناك آيات أخرى أنقلها إليكم بالمناسبة:
1ـ (والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون)(103) روى جماعة من أعلامكم عن مجاهد عن ابن عباس قال: الذي جاء بالصدق محمد (ص)، والذي صدق به علي بن أبي طالب (ع). منهم جلال الدين السيوطي في تفسيره الدر المنثور، والحافظ ابن مردويه في المناقب، والحافظ ابو نعيم في الحلية، والعلامة الكنجي في كفاية المطالب / باب 62، وابن عساكر في تاريخه يروي عن فئة من المفسرين.
2ـ (والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم)(104).
روى أحمد بن حنبل في المسند والحافظ أبو نعيم في كتابه: " ما نزل في علي من القرآن (ع) " عن ابن عباس أنها نزلت في شأن علي بن أبي طالب (ع) فهو من الصديقين.
3ـ (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين انعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا)(105).
وقد صرحت الأحاديث المروية عن طرقكم والتي نقلها أعلامكم في كتبهم ومسانيدهم: بأن عليا (ع) أفضل الصديقين، ولكي تعرفوا حقيقة مقالنا راجعوا ... مناقب ابن المغازلي الحديث 293 و294، والتفسير الكبير للفخر الرازي في تفسير قوله تعالى: (وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه)(106).
والدر المنثور للسيوطي في تفسير قوله تعالى: (واضرب لهم مثلا)(107) في سورة ياسين... وقال: اخرجه أبو داود وأبو نعيم وابن عساكر والديلمي عن أبي ليلى وفيض القدير للمناوي: ج4/238 في المتن وقال في الشرح ـ بعد لفظة وابن عساكر عن أبي ليلى ـ: وابن مردويه والديلمي من حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبيه أبي ليلى، وذخائر العقبى: ص 56 والرياض النضرة: ج2/ 153 للمحب الطبري، وقال فيهما رواه احمد بن حنبل في كتاب المناقب.
هؤلاء كلهم رووا بإسنادهم عن رسول الله (ص) أنه قال: الصديقون ثلاثة: حبيب النجار مؤمن آل يس.. وحزقيل مؤمن آل فرعون.. وعلي بن أبي طالب، وهو أفضلهم.
ورواه ابن حجر في الصواعق المحرقة في ضمن الأربعين حديثا في فضائله (ع) ـ الحديث الحادي والثلاثون ـ ونقله القندوزي في ينابيع المودة / الباب الثاني والأربعون قال: الإمام أحمد في مسنده وأبو نعيم وابن المغازلي وموفق الخوارزمي أخرجوا بالاسناد عن أبي ليلى وعن أبي أيوب الأنصاري (رض) قال: قال رسول الله (ص): الصديقون ثلاثة: حبيب النجار مؤمن آل يس.. وحزقيل مؤمن آل فرعون.. وعلي بن أبي طالب، وهو أفضلهم.
ورواه العلامة الكنجي إمام الحرمين في كتابه كفاية الطالب الباب الرابع والعشرون بسنده المتصل عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبيه قال: قال رسول الله (ص): سباق الأمم ثلاثة لم يشركوا بالله طرفة عين علي بن أبي طالب وصاحب ياسين ومؤمن آل فرعون فهم الصديقون، حبيب النجار مؤمن آل ياسين و حزئيل مؤمن آل فرعون وعلي بن أبي طالب ع و هو أفضلهم. ثم قال: هذا سند اعتمد عليه الدار قطني واحتج به(108).
انظروا إلى هذه الأحاديث والأخبار المروية عن رسول الله (ص) في كتبكم ومسانيدكم واتقوا الله بترك التعصب والعناد، ومزقوا الغشاوة التي ضربها أسلا فكم على قلوبكم وعقولكم، واكسروا الأقفال التي جعلوها على أفهامكم وبصائركم، وحرروا أنفسكم من قيود وأغلال التقليد من آبائكم وأجدادكم، ثم فكروا واعقلوا بقلوب متفتحة، وبعقول متنورة، وانظروا هل يحق أن تلقبوا أحدا غير علي بن أبي طالب بالصديق؟!
ليت شعري بأي دليل من القرآن الحكيم لقبتم أبا بكر بالصديق، بعد أن كذب أفضل الصديقين، ورد شهادة الصديق الأكبر في حق الصديقة الطاهرة فاطمة (ع)؟!
وبأي دليل لقبتم الذي مالأ أبا بكر وسانده على غصب حق الزهراء (ع)، وأطلقتم عليه لقب الفاروق؟!
(إن هي إلا أسماء سميتموهما أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان)(109).
علي (ع) مدار الحق والقرآن معه
أما قال رسول الله (ص): علي مع الحق والحق معه، وعلي مع القرآن والقرآن معه؟
هل من المعقول أن من كان مع الحق ومع القرآن وهما لا يفارقانه، يكون كاذبا؟! أو يشهد باطلا؟!
النواب: إنني كثيرا أجالس علماءنا وأستمع إلى حديثهم، ولا أغيب عن خطب الجمعة أبدا، ولكني ما سمعت منهم هذين الحديثين، فهل نقلهما علماؤنا الأعلام ومحدثونا الكرام في كتبهم؟
قلت: نعم نقلها كثير من أعلامكم، وقد أعلنت كرارا بأني لا أنقل لكم حديثا انفرد بنقله علماء الشيعة، بل كل ما أذكره في هذه المناقشات منقول من مصادر علمائكم وكتب أعلامكم، حتى يصدق عليه اسم الاحتجاج ويكون أوقع في نفوسكم وأرضى لقلوبكم وألزم لكم. وأذكر لك بعض المصادر المقبولة لديكم حول الحديثين الشريفين، وهي كثيرة منها:
في تاريخ بغداد: ج4 / 321 ذكر الخطيب البغدادي، والحافظ ابن مردويه في المناقب، والديلمي في الفردوس، والمتقي الهندي في كنز العمال: ج6 / 153، والحاكم النيسابوري في المستدرك: ج3 / 124، وأحمد بن حنبل في المسند، والطبراني في الأوسط والخطيب الخوارزمي في المناقب، والفخر الرازي في تفسيره: ج1 / 111، وابن حجر المكي في الجامع الصغير: ج2/74 و 75 و 140، وفي الصواعق المحرقة / الفصل الثاني / من الباب التاسع / الحديث الحادي والعشرين من الأربعين حديثا التي نقلها في فضل الإمام علي (ع)، ونقل الشيخ سليمان الحنفي القندوزي في ينابيع المودة / الباب 65 / 185 / ط. إسلامبول نقل عن الجامع الصغير لجلال الدين السيوطي، ونقل أيضا في الباب العشرين عن جمع الفوائد والأوسط والصغير للطبراني، ونقل الحمويني في الفرائد وعن ربيع الأبرار للزمخشري عن ابن عباس وعن أم سلمة.
والسيوطي في تاريخ الخلفاء / 116 والمناوي في فيض القدير: ج4 / 356 عن ابن عباس أو أم سلمة.
وفي مجمع الزوائد ج9 / 134، وج 7 / 236، والشبلنجي في نور الأبصار: ص 72 رووا عن أم سلمة، وبعضهم عن ابن عباس عن رسول الله (ص) أنه قال: علي مع القرآن والقرآن مع علي، لا يفترقان حتى يردا عليَّ الحوض.
ونقل ابن حجر في الصواعق أيضا في أواخر الفصل الثاني من الباب التاسع(110).
قال: وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال في مرض موته:
أيها الناس يوشك أن أقبض قبضا سريعا، فينطلق بي و قد قدمت إليكم القول معذرة إليكم: ألا إني مخلف فيكم كتاب الله ربي عز و جل، و عترتي أهل بيتي، ثم أخذ بيد علي (ع) فرفعها فقال هذا علي مع القرآن و القرآن مع علي لا يفترقا حتى يردا علي الحوض فاسألوهما ما خلفت فيهما.
وجاء في بعض الروايات: الحق لن يزال مع علي وعلي مع الحق لن يختلفا ولن يفترقا.
وحديث: " علي مع الحق والحق مع علي يدور معه حيثما دار " قد نقله أكثر محدثيكم(111).
وفي كتاب تذكرة الخواص(112) عند نقله حديث: " من كنت مولاه فعلي مولاه "، قال:... وكذا قوله (ص): " وأدر الحق معه حيثما دار وكيف ما دار " ، فيه دليل على أنه ما جرى خلاف بين علي (ع) وبين أحد الصحابة إلا وكان الحق مع علي (ع) وهذا بإجماع الأمة.
من أطاع عليا فقد أطاع الله ورسوله
وكذلك نرى في كتب أعلامكم وأسناد محدثيكم حديثا مرويا عن رسول الله (ص) إذ قال: من أطاع عليا فقد أطاعني، ومن أطاعني فقد أطاع الله، ومن أنكر عليا فقد أنكرني، ومن أنكرني فقد أنكر الله (113).
ونقل أبو الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني في كتابه الملل والنحل أن رسول الله (ص) قال: لقد كان علي على الحق في جميع أحواله يدور معه الحق حيثما دار.
كيف وبماذا توجهون عمل أبي بكر ورده شهادة علي (ع) في حق الزهراء (ع) مع وجود هذه الأخبار في كتبكم المعتبرة؟! فلا بد أن تعترفوا بأن عمل أبي بكر كان مخالفا لكتاب الله ولسنة رسول الله (ص) وأنه جحد حق فاطمة ومنعها فدكا من غير حق، وأنه كذب الله (ص) وأنه جحد حق فاطمة ومنعها فدكا من غير حق، وأنه كذب تلك الصادقة المصدقة، وكذب عليا (ع) وأهانه برد شهادته والهجوم على داره وسحبه من البيت إلى المسجد لأخذ البيعة منه كرها....
فأين هذه الأعمال مما رواه أبو المؤيد موفق بن أحمد الخوارزمي في المناقب، ومحمد بن طلحة الشافعي في مطالب السؤول، وابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة، أن رسول الله (ص) قال: من أكرم عليا فقد أكرمني، ومن أكرمني فقد أكرم الله، ومن أهان عليا فقد أهانني، ومن أهانني فقد أهان الله؟!!
أيها الحاضرون، وخاصة أنتم العلماء، قايسوا أحداث السقيفة وما بعدها وما جرى على آل رسول الله (ص) من بعده، قايسوها مع هذه الأخبار والأحاديث المروية في كتب أعلامكم، ثم أنصفوا واحكموا: هل الصحابة عملوا بأوامر رسول الله (ص) ووصاياه في حق عترته وأهل بيته أم خالفوها؟؟! وهل عمل أبو بكر بحكم الله والشرع المبين في قضية فدك أم أنه أجحف فاطمة وجحد حقها؟!
لأننا قلنا: أولا.. ما كان له أن يطالب البينية من فاطمة لأنها كانت متصرفة في فدك، وكانت فدك في يدها، فكان هو المدعي وعليه البينة، لا على فاطمة (ع).
ثانيا: إذا كان أبو بكر محتاطا في القضية كما تزعمون، وأنه أراد أن يتيقن من تمليك رسول الله (ص) فاطمة فدكا، فطالبها بالشهود والبينة، فلماذا ترك هذا الاحتياط حينما ادعى الصحابة الآخرون مالا بوعد من رسول الله (ص) وعده، فأعطاه أبو بكر ذلك المبلغ من بيت مال المسلمين ولم يطالبه بالبينة والشهود ؟ فكيف يحكم في قضيتين متشابهتين بحكمين متناقضين؟!
ولعمري.. لماذا يحتاط في أمر فاطمة (ع)؟ أكان أبو بكر يظن كذبها؟! وهي التي يشهد الله سبحانه بطهارتها من كل رجس، وكانت عند عامة الناس أيضا صادقة ومصدقة، فقد قال أبو نعيم في حلبة الأولياء: ج2 / 42 / راويا عن عائشة قال: ما رأيت أحدا قط أصدق من فاطمة غير أبيها.
وقال ابن أبي الحديد في شرح النهج ج16 / 284 / ط. دار إحياء التراث العربي:
و سألت علي بن الفارقي، مدرس المدرسة الغربية ببغداد، فقلت له : أ كانت فاطمة صادقة؟ قال: نعم.
قلت: فلم لم يدفع إليها أبو بكر فدك و هي عنده صادقة؟
فتبسم.. ثم قال كلاما لطيفا مستحسنا مع ناموسه و حرمته و قلة دعابته، قال: لو أعطاها اليوم فدك بمجرد دعواها، لجاءت إليه غدا و ادعت لزوجها الخلافة، و زحزحته عن مقامه، و لم يكن يمكنه الاعتذار و الموافقة بشيء، لأنه يكون قد سجل على نفسه أنها صادقة فيها تدعي كائنا ما كان من غير حاجة إلى بينة و لا شهود.
و هذا كلام صحيح، و إن كان أخرجه مخرج الدعابة و الهزل.
" انتهى كلام ابن أبي الحديد ".
فالحقيقة التي هي اليوم ظاهرة ومكشوفة لعلمائكم كيف كانت مبهمة وغير منكشفة يوم أمس عند معاصريها والذين أدركوها من قريب؟! فكانت أوضح لهم وأظهر ، إلا أن السياسة وحب الرياسة اقتضت منهم إنكار الحقيقة وجحد حق الزهراء المظلومة (ع)!!
الحافظ: لمن أعطى الخليفة (رض) مال المسلمين بغير بينة وشهود؟
قلت: ادعى جابر بعد وفاة النبي (ص) أنه وعده بأن يعطيه من مال البحرين حين وصوله. فأعطاه أبو بكر ألف وخمسمائة دينار، من مال المسلمين الذي وصل من البحرين، وما طلب من جابر بينة وشهودا على ما ادعاه.
الحافظ: أولا: ما وجدت هذا الخبر في كتب علمائنا، ولعلكم انفردتم أنتم الشيعة به!
وثانيا: من أين عرفتم أن الخليفة ما طالب جابرا بالبينة والشهود على ما ادعاه؟
قلت: إني أتعجب من قولك! كيف ما وجدت هذا الخبر في كتب علمائكم؟ وهم يستدلون ويستشهدون بهذا الخبر على أنه خبر الصحابي الواحد العادل مقبول.
كما أن شيخ الإسلام الحافظ أبا الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني طرحه في كتاب فتح الباري في شرح صحيح البخاري / باب من يكفل عن ميت ديْنا ـ وبعد نقله الخبر قال: إن هذا الخبر فيه دلالة على قبول خبر العدل من الصحابة ولو جر ذلك نفعا لنفسه، لأن أبا بكر لم يلتمس من جابر شاهدا على صحة دعواه.
ونقل البخاري هذا الخبر أيضا في صحيحه: ج5 / 218 / ط. دار إحياء التراث العربي تحت عنوان " قصة عمان والبحرين ":
روى بسنده عن جابر بن عبد الله قال: قال لي رسول الله (ص): لو قد جاء مال البحرين، لقد أعطيتك هكذا وهكذا وثلاثا.
فلم يقدم مال البحرين حتى قبض رسول الله (ص).
فلما قدم على أبي بكر، أمر مناديا فنادى من كان له عند النبي (ص) ديْن أو عدة فليأتني.
قال جابر: فجئت أبا بكر فأخبرته أن النبي (ص) قال: لو جاء مال البحرين أعطيتك هكذا وهكذا ثلاثاكذا وهكذا ثلاثا. قال: فأعطاني..... ـ وفي آخر الرواية ـ فقال لي أبو بكر: عدها.
فعددتها فوجدتها خمسمائة. فقال خذ مثلها مرتين.
ونقله السيوطي أيضا في كتابه تاريخ الخلفاء / قسم خلافة أبي بكر.
والآن أيها الحاضرون... فكروا وأنصفوا! لماذا هذا التبعيض؟ يصدق جابر على ما مدعاه من غير بينة وشهود، وترد بنت رسول الله (ص) وشهودها! وقد شهد الله تعالى لها ولبعلها وابنيهما في آية التطهير!
إشكال في شمول آية التطهير
الحافظ: إن سياق الآية خطاب لزوجات الرسول (ص) ولذا ذهب البيضاوي والزمخشري وغيرهما من أئمة التفسير إن الآية تشمل زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقولكم بأنها تشمل عليا وفاطمة وابنيهما قول ضعيف لأنه خارج عن سياق الآية وظاهرها، فإن صدر الآية وآخرها يخاطب نساء النبي.
آية التطهير لا تشمل زوجات النبي (ص)
قلت: كلامك مردود من جهات عديدة.
أولا: كلامك بأن صدر الآية آخرها يخاطب نساء النبي (ص) فيقتضي أن يكون وسطها أيضا ـ وهو آية التطهير ـ خطابا لنساء النبي (ص).
أقول: أولا: إن البلاغة تقتضي غير ذلك، فقد ثبت عند العلماء إن من فنون البلاغة في القرآن الحكيم، أن يتوسط كلام جديد بين الجمل المتناسقة، اتقاء من أن يمل السامع من الكلام المسجع والجملات المرتبة على نسق واحد، فتغير الأسلوب يكون تنويعا في الكلام، وقد تكرر نمط هذا الأسلوب في القرآن الكريم.
ثانيا: إذا كان المقصود من أهل البيت هم زوجات الرسول (ص) لاقتضى أن يكون الضمير ضمير جمع المؤنث المخاطب على نسق الضمائر التي وردت قبلها وبعدها، فيكون " ليذهب عنكن الرجس ويطهركن "، ولكن الله سبحانه ذكر الضمائر في هذه القطعة من الآية على صيغة جمع المذكر المخاطب فقال تعالى: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا)(114)، فأخرجها عن مخاطبة زوجات النبي ونسائه.