ولكن لا يوجد حتى حديث واحد متفق على صحته بين الفريقين في ولاية وخلافة الثلاثة قبل الإمام علي (ع)، أو في خلافة أحد الأمويين والعباسيين.

الشيخ عبد السلام: لقد ورد عندنا عن رسول الله (ص) أنه قال: أبو بكر خليفتي في أمتي.

قلت: أولا... هذا الحديث غير مقبول عندنا ولم يروه أحد من علماء الشيعة، فضار غير متفق عليه.

ثانيا: لقد ذكرنا أقوال بعض أعلامكم في بطلان الأحاديث الموضوعة في فضل أبي بكر ومناقبه، وإضافة على ما مضى أنقل لكم قول أحد كبار علمائكم ومشاهير أعلامكم، وهو الشيخ مجد الدين الفيروز آبادي صاحب كتاب القاموس في اللغة، قال في كتابه " سفر السعادة ": إن ما ورد في فضائل أبي بكر، فهي من المفتريات التي يهد بديهة العقل بكذبها.

خلافة علي (ع) أقرب إلى الإجماع من خلافة غيره

ولا يخفى على من تدبر في تاريخ الخلافة، أن خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) كانت أقرب إلى الإجماع من خلافة الثلاثة قبله، والذين استولوا على الخلافة بعده من الأمويين والعباسيين.

فقد بينا عدم تحقق الإجماع في الخلفاء الذين تولوا الأمر قبل الإمام علي (ع) وكذلك الذين جاءوا بعده، فلم يتحقق إجماع الأمة لأحدهم، والتاريخ يشهد على ذلك ولكن تحقق للإمام علي (ع) ما يقرب من الإجماع، فإن الذين بايعوه بعد مقتل عثمان كانوا عامة أهل المدينة إلا من شذ، وهم أقل من عدد الأصابع، وإضافة على أهل المدينة، فقد بايعه جمع كثير من أهالي الأمصار الذين كانوا يتوبون عن أهل بلادهم وقومهم، وهم الذين أقبلوا من البصرة والكوفة ومن مصر وغيرها من بلاد الإسلام ونزلوا المدينة، فقد بايعه جمع كثير من أهالي الأمصار الذين كانوا ينوبون عن أهل بلادهم وقومهم، وهم الذين أقبلوا من البصرة والكوفة ومن مصر وغيرها من بلاد الإسلام ونزلوا المدينة المنورة، ليعزلوا عثمان عن الخلافة، أو يصلحوه ويصلحوا شأنه ودولته. فلما قتل عثمان، أجمعوا على بيعة الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع).

ولا يخفى أن المجتمعين يومئذ في المدينة المنورة، والذين أجمعوا على بيعة الإمام علي (ع)، كانوا زعماء القوم وأهل الحل والعقد في أمصارهم وشيوخ أهل بلدانهم.

والجدير بالذكر، أننا مع تحقق هذا الأمر ـ الذي كان أقرب شيء إلى الإجماع ـ لم نجعله دليلا على خلافة الإمام علي (ع).

وإنما الدليل الثابت عندنا والبرهان المثبت لخلافة مولانا وسيدنا الإمام علي (ع) هو النص الإلهي في القرآن الحكيم وصريح حديث النبي الكريم (ص)، وهو مطابق لسيرة جميع الرسل والأنبياء الذين كانوا يعينون أوصياءهم وخلفاءهم بأمر الله سبحانه.

ثالثا: قلتم لا فرق بين أبي الحسن أمير المؤمنين وبين الخلفاء قبله. فلا أدري هل تنطقون بهذا الكلام عن جهل أو تجاهل؟ لأن الأدلة العقلية والنقلية والشواهد التاريخية والحسية كلها قائمة على أن عليا (ع) يمتاز عن الخلفاء بل عن كل البشر. فلا يقاس به أحد.

امتيازات الإمام علي (ع)

كل من يطالع تاريخ حياة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) من حين ولادته في بطن الكعبة، إلى استشهاده في سبيل الله في حال العبادة والصلاة في وسط المحراب في مسجد الكوفة، وينظر بنظر التحقيق والتدقيق في جهاده ومواقفه، وفي خطبه وكلماته، وفي حركاته وسكناته، وفي خوضه الحوادث وانزوائه...، لا يشك في أنه (ع) كان شخصية متميزة وفريدة ومن نوادر التاريخ وأعظم نوابغ البشر، لذلك نرى جميع المسلمين وأكثر أعلامكم وكبار علمائكم إلا من شد ـ وهم من الخوارج والنواصب من الأمويين والبكريين ـ قالوا: بأفضليته ممن سواه بعد رسول الله (ص)، وذلك استنادا إلى الحديث الشريف المروي عن النبي (ص) في حقه أنقله لكم مضافا إلى ما رويته من كتب أعلامكم في الليالي الماضية في فضائله ومناقبه (ع).

روى أحمد بن حنبل في مسنده، والموفق بن أحمد الخوارزمي في المناقب، والعلامة الهمداني في مودة القربى، والحافظ أبو بكر البيهقي في السنن وغيرهم عن طرق شتى وعبارات متفاوتة في الألفاظ والمعنى واحد، عن النبي (ص) قال: علي أعلمكم وأفضلكم وأقضاكم والراد عليه كالراد علي، والراد كالراد على الله، وهو على حد الشرك بالله.

وقال ابن أبي الحديد في مقدمة شرح نهج البلاغة / بعد ذكره أقوال المشاهير تحت عنوان (القول فيما يذهب إليه أصحابنا المعتزلة، في الإمامة والتفضيل ) قال: و أما نحن فنذهب إلى ما يذهب إليه شيوخنا البغداديون، من تفضيله (ع) و قد ذكرنا في كتبنا الكلامية ما معنى الأفضل و هل المراد به الأكثر ثوابا أو الأجمع لمزايا الفضل و الخلال الحميدة؟ و بينا أنه (ع) أفضل على التفسيرين معا.

وهنا ارتفع صوت المؤذن لصلاة العشاء، وبعد الفراغ من الصلاة، شربنا الشاي، وتناولنا الفاكهة، ثم شرعنا في الحديث:

أصول الفضل والكمال

قلت: تعقيبا لكلام ابن أبي الحديد، أطرح عليكم هذا السؤال: ما هي رؤوس الفضل وأصول الكمال عندكم؟؟

الشيخ عبدالسلام: ـ بعد أن أطرق برأسه مليا، رفعها وقال ـ: هي كثيرة ولكن أهمها بعد الإيمان بالله وبرسوله، النسب الطاهر وطيب المولد والمنبت ، والعلم والتقوى.

قلت: أحسنت يا شيخ، فلنبحث في هذه الأمور التي أشرت إليها ونحن نوافقكم على أن هذه من أمهات الفضائل والكمالات البشرية. ولا ننكر أن بعض الصحابة كانت فيهم خصائص وخصال حميدة، ولكن من كان جامعا لهذه الصفات الثلاثة التي أشرتم إليها بأنها أمهات الفضائل وأصول الكمال، فهو أفضلهم وأكملهم، وبحكم العقل والعقلاء يكون أحق بالخلافة من سائر الصحابة.

طهارة نسب ومولد الإمام علي (ع)

أما في النسب والمولد فلا يشك أحد بأن الإمام علي (ع) أشرف الصحابة في النسب، وأفضلهم في المولد والمنبت، لأنه يساوي النبي الأكرم (ص) في ذلك (30)، فأما النسب فواضح، وأما المنبت فقد ذكر المؤرخون كلهم أن النبي (ص) بعد وفاة جده عبد المطلب، انتقل إلى بيت أبي طالب وكان عمره الشريف يومئذ ثمان سنين، فتكفله عمه ورعاه أتم وأجمل رعاية.

فكما حارت العقول في شخصية النبي (ص) وحقيقته، بهرت العقول أيضا في شخصية علي وحقيقته، حتى أن المتعصبين من أعلامكم مثل علاء الدين القوشجي، والجاحظ وهو يعد من النواصب، وسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني، وغيرهم قالوا: إننا حيارى ولا ندري كيف نفسر كلام علي بن أبي طالب إذ يقول: نحن أهل البيت لا يقاس بنا أحد.

وقال (ع) أيضا في الخطبة الثانية من نهج البلاغة:

لا يُقَاسُ بِآلِ مُحَمَّدٍ (ص) مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ أَحَدٌ وَ لا يُسَوَّى بِهِمْ مَنْ جَرَتْ نِعْمَتُهُمْ عَلَيْهِ أَبَداً هُمْ أَسَاسُ الدِّينِ وَ عِمَادُ الْيَقِينِ إِلَيْهِمْ يَفِي‏ءُ الْغَالِي وَ بِهِمْ يُلْحَقُ التَّالِي وَ لَهُمْ خَصَائِصُ حَقِّ الْوِلايَةِ وَ فِيهِمُ الْوَصِيَّةُ وَ الْوِرَاثَةُ، الآْنَ إِذْ رَجَعَ الْحَقُّ إِلَى أَهْلِهِ وَ نُقِلَ إِلَى مُنْتَقَلِهِ(31).

واعلموا أن اعتقاد كثير من كبار علماء السنة وأعلامهم في الإمام (ع) هو كذلك.

فقد روى العلامة الهمداني في كتابه مودة القربى / المودة السابعة عن أبي وائل عن ابن عمر (رض) قال: كنا إذا عددنا أصحاب النبي (ص) قلنا أبو بكر وعمر وعثمان. فقال [له] رجل: يا أبا عبدالرحمن، فعلي ما هو؟ قال: علي من أهل البيت لا يقاس به أحد هو مع رسول الله (ص) في درجته.

وروى العلامة الهمداني أيضا عن أحمد بن محمد الكرزي البغدادي قال: سمعت عبد الله بن أحمد بن حنبل قال سألت أبي عن التفضيل فقال: أبو بكر وعمر وعثمان، ثم سكت. فقلت: يا أبت أين علي بن أبي طالب؟ فقال هو من أهل البيت، لا يقاس به هؤلاء.

أقول والذي يدل على أن هؤلاء وغيرهم من الصحابة لا يقاسون به، أنه (ع) كرسول الله (ص) خلق في عالم الأنوار قبل أن يظهر في عالم الأكدار، والفرق بينهما كالفرق بين السماء والأرض.

النبي (ص) وعلي (ع) من نور واحد

روى جماعة من الأعلام والحفاظ من علمائكم، منهم أحمد بن حنبل في المسند، والشيخ محمد بن طلحة العدوي القرشي في كتاب مطالب السئول، والحافظ ابن المغازلي الفقيه الشافعي في كتابه المناقب / حديث رقم 130 / بسنده عن النبي (ص) قال : كنت أنا و علي نورا بين يدي الله من قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر ألف عام، فلما خلق الله تعالى آدم ركب ذلك النور في صلبه فلم يزل في نور واحد حتى افترقنا في صلب عبدالمطلب، ففي النبوة وفي علي الخلافة.

وقد فتح العلامة الهمداني باب في كتابه مودة القربى بعنوان / المودة الثامنة في أن رسول (ص) وعليا من نور واحد، وأعطي علي من الخصال ما لم يعط أحد من العالمين.

فنقل أخبار كثيرة عن رسول الله (ص) بطرق شتى، منها ما رواه عن عثمان بن عفان عن النبي (ص) قال: خلقت أنا و علي نور واحد قبل أن يخلق الله آدم بأربعة آلاف عام، فلما خلق الله تعالى آدم ركب ذلك النور في صلبه، فلم يزل شيئا واحدا حتى افترقنا في صلب عبدالمطلب، ففي النبوة وفي علي الوصية.

وروى أيضا عن علي (ع) قال: قال رسول الله (ص): يا علي! خلقني الله وخلقك من نوره، فلما خلق آدم (ع) أودع ذلك النور في صلبه، فلم نزل أنا وأنت شيئا واحدا ثم افترقنا في صلب عبدالمطلب، ففي النبوة وفي علي الوصية والإمامة.

ونقل ابن أبي الحديد في شرح النهج: ج9 / 171 ط. دار إحياء التراث / الخبر الرابع عشر: " كنت أنا و علي نورا بين يدي الله قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر آلاف عام، فلما خلق آدم قسم ذلك فيه وجعله جزءين، جزء أنا و جزء علي " قال ابن أبي الحديد: رواه أحمد في المسند وفي كتاب فضائل علي (ع)، وذكره صاحب كتاب الفردوس، وزاد فيه: ثم " انتقلنا حتى صرنا في عبد المطلب، فكان لي النبوة ولعلي الوصية ".

وروى الحافظ القندوزي في كتابه ينابيع المودة في الباب الأول روايات كثيرة في الموضوع عن جمع الفوائد، ومناقب ابن المغازلي وعن الفردوس للدليمي وفرائد السمطين للحمويني ومناقب الخوارزمي نعم روى المؤيد الخوارزمي في الفصل الرابع من كتابه المناقب وأيضا في الفصل الرابع من كتابه مقتل الحسين (ع) روايات شتى في الموضوع.

وكذلك روى في الموضوع سبط ابن الجوزي في التذكرة / 50 ط. مؤسسة أهل البيت بيروت، وابن الصباغ المالكي في كتابه الفصول المهمة، والعلامة الكنجي الشافعي في كتاب كفاية الطالب / الباب 87 نقل عن محدث الشام ابن عساكر وعن محدث العراق وعن معجم الطبراني بإسنادهم بطرق شتى وعنوانه (الباب السابع والثمانون: في أن عليا خلق من نور النبي (ص)) وحيث أن الروايات في الموضوع منقولة بألفاظ شتى وكلمات مختلفة والمعنى واحد، فأقول: ربما صارت الروايات من رسول الله (ص) في بيان هذا الموضوع كرات ومرات عديدة لأهميته.

أجداد الإمام علي (ع) وآباؤه مؤمنون

ولقد ثبت أن أجداد الإمام علي (ع) كلهم كانوا مؤمنين ولم يشركوا بالله طرفة عين، فأن الأصلاب الشامخة والأرحام المطهرة التي حملته وتناقلته هي الأصلاب والأرحام التي حملت رسول الله (ص) وقد طهرها الباري عز وجل من درن الشرك وأقذار الجاهلية، فهو علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن نضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان بن أد بن أدد بن اليسع بن الهميس بن نبت بن سلامان بن حمل بن قيدار بن إسماعيل بن إبراهيم خليل الله بن تارخ بن تاحور بن شاروع بن أرغو بن تالغ بن عابر بن شالح بن أرفخشد بن سام بن نوح بن لمك بن متوشلخ بن أخنوه بن بارد بن مهلائل بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم ابي البشر(ع) هؤلاء كلهم كانوا مؤمنين بالله تعالى، يعبدونه ولا يشركون به شيئا.

الشيخ عبد السلام: ولكن القرآن الحكيم يصرح بخلاف هذا الكلام، فقد قال تعالى في سورة الأنعام آية 74: (وَ إِذْ قالَ إبراهيم لابيهِ آزَرَ أَ تَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَ قَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ).

آزر عم إبراهيم (ع)

قلت: كلام الشيخ واصل إليه من أسلافه، وهم لما رأوا نسب شيوخهم وزعمائهم من الصحابة ينتهي إلى الكفر والشرك، أرادوا دفع هذا النقص ورفع العيب عنهم، فتفوهوا بهذا الكلام وعابوا على خير الأنام، وقال بأن آزر أبا إبراهيم الخليل كان يعبد صنما، وكلكم تعلمون أن علماء الأنساب أجمعوا على أن والد إبراهيم الخليل (ع) كان تارخ، وآزر كان عمه.

الشيخ عبد السلام ـ متعجبا ـ: إنكم تقابلون القرآن الحكيم بكلام علما الأنساب!! فإن الله سبحانه يصرح بأن آزر أبا إبراهيم كان يعبد الأصنام ونحن نأخذ بظاهر القرآن ونترك قول من خالفه، لأن الظاهر نص وخلافه اجتهاد.

قلت: نحن لا نجتهد في مقابل النص، وإنما نقابل النص بالنص ونستخرج المعنى المعقول المفهوم من النصين، فإن القرآن في كثير من الأمور يفسر بعضه بعضا. وما اشتبه علينا تفسيره فنرجع به إلى قول العترة الهادية الذين عينهم رسول الله (ص) لذلك إذ قال: إني تارك فكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي.

وهم قالوا بأن آزر كان عم إبراهيم الخليل، فلما توفي تارخ والد إبراهيم، تزوجت أمه بآزر، فكان إبراهيم يناديه بالأب، وهو شيء شائع في العرف.

الشيخ عبدالسلام: نحن لا نترك ظاهر الآية الشريفة: (وَ إِذْ قالَ إبراهيم لأبيهِ آزَرَ) إلا أن تأتوا بآية من القرآن الحكيم تفسر كلمة الأب بالعم، وهذا لا يوجد في القرآن.

قلت: لا تنفي ذلك، لأن علمك ناقص بمفاهيم القرآن الحكيم، وما تجهله من هذا الكتاب العظيم أكثر مما تعلمه.

ولكي يتضح لك أن كلمة الأب جاءت بمعنى العم في القرآن الحكيم، فراجع سورة البقرة / الآية 133 في قوله تعالى: (إِذْ قال(32) لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَ إِلهَ آبائِكَ إبراهيم وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ إِلهاً واحِداً).

الشاهد والدليل في الآية " إسماعيل " لأنه كان عم يعقوب وإسحاق هو أبو يعقوب. ولكن أولاد يعقوب عدوا إسماعيل أبا ليعقوب في عداد أبويه إبراهيم وإسحاق.

دليل آخر

وعندنا دليل آخر من القرآن الحكيم في أن آباء النبي (ص) كلهم كانوا مؤمنين بالله يسجدون له وحده ويعبدونه إلها واحدا وهو قوله تعالى مخاطبا لنبيه (ص): (وَ تَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ)(33) روى الحافظ الشيخ سليمان القندوزي الحنفي في كتابه ينابيع لمودة / الباب الثاني / وغيره أيضا من علمائكم رووا عن ابن عباس حبر الأمة وهو من تعلمون مقامه من المفسرين ، قال: أي تقلبه (ص) من أصلاب الموحدين، نبي إلى نبي، حتى أخرجه الله من صلب أبيه من نكاح غير سفاح من لدن آدم.

وروى العلامة القندوزي حديثا آخر في الباب ورواه أيضا جمع من علمائكم منهم الثعلبي في تفسيره، عن رسول الله (ص) قال: أهبطني الله إلى الأرض في صلب آدم وجعلني في صلب نوح في السفينة وقذف بي في صلب إبراهيم ثم لم يزل الله ينقلني من الأصلاب الكريمة إلى الأرحام المطهرة حتى أخرجني من بين أبوين لم يلتقيا على سفاح قط.

وفي رواية أخرى قال (ص): لم يدنسني بدنس الجاهلية.

وروى القندوزي أيضا في الباب الثاني قال: وفي كتاب أبكار الأفكار للشيخ صلاح الدين بن زين الدين الشهير بابن الصلاح (قدس سره) قال جابر بن عبدالله الأنصاري (رض) سألت رسول الله (ص) عن أول شيء خلقه الله تعالى، قال (ص): هو نور نبيك يا جابر ـ والرواية مفصلة وطويلة لا مجال لذكرها كلها، وجاء في آخرها : وهكذا ينقل الله نوري من طيب إلى طيب، ومن طاهر إلى طاهر إلى أن أوصله إلى صلب أبي عبد الله بن عبد المطلب، ومنه أوصله الله إلى رحم أمي آمنة، ثم أخرجني إلى الدنيا فجعلني سيد المرسلين وخاتم النبيين، ومبعوثا إلى كافة الناس أجمعين ورحمة للعالمين وقائد الغر المحجلين، هذا كان بدء خلق نبيك يا جابر.

ثم قال القندوزي: وفي شرح الكبريت الأحمر للشيخ عبد القادر روى الحديث المذكور عن جابر بن عبد الله أيضا إلى آخره.

فقوله (ص): وهكذا ينقل الله نوري من طيب إلى طيب، ومن طاهر إلى طاهر، دليل على أنهم كانوا مؤمنين بالله وموحدين له. فبرأهم الله تعالى من الكفر والشرك، إذ يقول الله سبحانه: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ)(34).

وكذلك روى القندوزي في الباب الثاني من ينابيع المودة عن ابن عباس عن النبي (ص) أنه قال: ما ولدني في سفاح الجاهلية شيء وما ولدني إلا نكاح كنكاح الإسلام.

وفي نهج البلاغة / خطبة رقم 94 يصف بها الأنبياء الكرام لا سيما خاتمهم وسيدهم، فقال:... فاستودعهم في أفضل مستودع و أقرهم في خير مستقر. تناسختهم [ تناسلتهم ] كرائم الأصلاب إلى مطهرات الأرحام... حتى أفضت كرامة الله سبحانه وتعالى إلى محمد (ص) فأخرجه من أفضل المعادن منبتا، و أعز الأرومات مغرسا، من الشجرة التي صدع منها أنبياءه و انتجب منها أمناءه.

ولو أردنا جمع الأخبار والروايات الواردة عن طرقنا وطرقكم لبلغ مجلدا ضخما، ولكن في المنقول كفاية لمن أراد الهداية واتباع الحق، فإن الحق الذي يظهر من هذه الروايات والآيات يدل على أن آباء النبي (ص) وأجداده كانوا موحدين لله سبحانه مؤمنين به عز وجل، ومنه يثبت هذا الأمر لعلي بن ابي طالب (ع) أيضا، لأنهما صلوات الله عليهما وآلهما من شجرة واحدة ونور واحد، كما تواتر عن طرق الشيعة ورواه أيضا كثير من أعلامكم وكبار علمائكم أن النبي (ص) قال: أنا وعلي من شجرة واحدة وسائر الناس من شجر شتى.

وقال (ص): خلقت أنا وعلي من نور واحد.. الخ، وقد ذكر بعض مصادره من كتب أعلامكم.

فبحكم العقل ورأي العقلاء، فإن علي بن أبي طالب (ع) أحق من غيره بخلافة النبي (ص) لأنه أقرب الناس إليه في المقام والمنزلة، مع هذه المشابهات والمقارنات بينهما عليهما السلام(35).

الشيخ عبد السلام: إذا أثبتم بهذه الأدلة أن آباء النبي (ص) من عبد الله إلى آدم كلهم كانوا مؤمنين بالله سبحانه فيتعين ذلك فيه ويكون من خصائصه، فلا تشمل الأدلة والد علي كرم الله وجهه، فقد ثبت أن أبا طالب مات مشركا ولم يؤمن بالله سبحانه.

إيمان ابي طالب عليه السلام

قلت: نعم.. لقد اختلف المؤرخون في إيمان أبي طالب (ع) ولكن المحقق المنصف يعرف إن القول بكفر أبي طالب وشركه صادر من أعداء الإمام علي (ع) ومناوئيه من الخوارج والنواصب، أرادوا بذلك الحط من كرامة الإمام علي (ع)، وتنزيل مقامه المنيع، وتقليل شأنه الرفيع.

ثم إن بعض الأعلام قد نقلوا هذا الخبر من غير تحقيق وتدبر، وتناقله آخرون من كتاب إلى كتاب بغير تعمق وتفكر، حتى آل اليوم إليكم، وأنتم تنقلونه وترسلونه إرسال المسلمات، ولو كنتم تتدبرون في الأخبار، وتنقلون الروايات بعد التحقيق، مما تفوهتم بهذا الكلام، وما قلتم إن أبا طالب (ع) مات مشركا إذ أن جمهور علماء الشيعة وأهل البيت (ع) الذين جعلهم النبي (ص) أعلام الهداية وعدل القرآن الحكيم، وكذلك كثير من أعلامكم مثل ابن أبي الحديد، وجلال الدين السيوطي، وأبي القاسم البلخي، والعلامة أبي جعفر الإسكافي، وآخرين من أعلام المعتزلة، والعلامة الهمداني الشافعي، وابن الأثير، وغيره ذهبوا إلى أن أبا طالب عليه السلام أسلم في حياته واعتنق الدين الحنيف ومات مؤمنا، بل اعتقاد الشيعة في أبي طالب (ع) انه آمن بالنبي (ص) في أول الأمر، وأما إيمانه بالله سبحانه كان فطريا ولم يكفر بالله طرفة عين، وكما في الأخبار المروية عن أعلام العترة وأهل البيت (ع) ، أنه لم يعبد صنما قط، وكان على دين إبراهيم الخليل (ع) وهو يعد من أوصيائه.

وأما قول أعلامكم ومؤرخيكم وعلمائكم المحققين منهم أنه أسلم، فقد قال ابن الأثير في كتاب جامع الأصول: وما أسلم من أعمام النبي غير حمزة والعباس وأبي طالب عند أهل البيت (ع).

ومن الواضح أن إجماع أهل البيت (ع) مقبول عند المسلمين ولا يحق لمؤمن أن يرده، لأن النبي (ص) جعلهم عدل القرآن، وارجع إليهم المسلمين في الأمور التي يختلفون فيها، وجعل قولهم الفصل والحجة والحق، وقال (ص): ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا. فجعل كلام الله وأهل البيت أمانا من التيه والضلال.

وعلى القاعدة المشهورة: أهل البيت أدرى بما في البيت، فهم أعلم بحال آبائهم وتاريخ حياة أسلافهم.

فالغرابة والعجب منكم إذ تتركون قول أهل البيت الطيبين (ع)، وتتركون قول أمير المؤمنين وسيد الصديقين والصادقين الذي شهد الله ورسوله بصدقه وتقواه، ثم تأخذون كلام المغيرة بن شعبة الفاجر وتصدقون بني أمية والخوارج والنواصب، المخالفين والمناوئين للإمام علي (ع)، الذين دعاهم الحقد والحسد، إلى جعل الأخبار والروايات الموضوعة، للحط من كرامة الإمام علي (ع) وتصغير شخصيته العظيمة، وللأسف إنكم تتمسكون بتلك الأخبار الموضوعة من غير تدبر وتحقيق، وترسلونها إرسال المسلمات، وتؤكدون على صحتها بغير علم أتاكم.

قال ابن أبي الحديد في شرح ‏نهج ‏البلاغة ج14/65، ط دار إحياء التراث العربي:

و اختلف الناس في إيمان أبي طالب، فقالت الإمامية و أكثر الزيدية: ما مات إلا مسلما. و قال بعض شيوخنا المعتزلة بذلك، منهم الشيخ أبو القاسم البلخي و أبو جعفر الإسكافي و غيرهما.

أقول: والمشهور عندنا أنه ما تظاهر بالإسلام بل أخفى ذلك ليتمكن من نصرة رسول الله (ص) والذب عنه، فإن المشركين من أهل مكة وقريش، كانوا يراعون ذمته ويقفون عند حدهم إذا نظروا إليه، فكانوا يهابون، ويعظمون جانبه إذ كانوا يحسبوه منهم.

الشيخ عبد السلام: أما سمعتم الحديث المروي عن النبي (ص) في عمه أنه قال: إن أبا طالب في ضحضاح من نار.

قلت: هذا الحديث مثل كثير من الأحاديث المروية في كتبكم، موضوع وكذب وافتراء على النبي الكريم (ص). فلا يخفى على المحقق البصير، والمنصف الخبير، أن هذا الحديث وما شاكله مجعول وموضوع افتراه أعداء محمد وآل محمد (ع)، وذلك في عهد الأمويين وخاصة معاوية بن أبي سفيان الذي خصص أموالا طائلة لهذا الغرض الإلحادي. ولو عرفتم راوي هذا الخبر وفسقه وفجوره، ما شككتم في كذبه وافترائه وعدم صحة أخباره.

فإن الراوي هو المغيرة بن شعبة، من ألد أعداء الإمام علي (ع) وهو الذي اتهم بالزنا في البصرة وشهد عليه ثلاثة من الشهود عند عمر، ولما أراد الرابع أداء الشهادة، قاطعه عمر بجملة فأبى الرابع من أدائها، فخلص المغيرة، وأقام الحد على الشهود(36).

ثم نجد في رواته، عبد الملك بن عمير، وعبد العزيز الراوردي، وسفيان الثوري، الذين عدهم علماؤكم المتخصصين بعلم الرجال في الجرح والتعديل، مثل الذهبي في ميزان الاعتدال: ج2/ عدهم من الضعفاء ورد رواياتهم، بل عد سفيان الثوري من المدلسين الكذابين.

فلا أدري كيف تعتمدون على رواية أولئك الكذابين الوضاعين؟!

الدلائل والشواهد على إيمان أبي طالب عليه السلام

أما الدلائل المثبتة لإيمان أبي طالب (ع) فكثيرة، ولا ينكرها إلا من كان في قلبه مرض، منها:

1ـ قول النبي (ص): أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة، وأشار بسبابته والوسطى منضمتين مرفوعين، نقله ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة: ج14/69، ط دار إحياء الكتب العربية ومن الواضح انه (ص) لم يقصد بحديثه الشريف كل من يكفل يتيما، فإنا نجد بعض الكافلين للأيتام لا يستحقون ذلك المقام وهو جوار سيد الأنام في الجنة، لأنهم على جنب كفالتهم لليتيم يعملون المعاصي الكبيرة، والذنوب العظيمة، التي يستحقون بها جهنم لا محالة.

ولكنه صلوات الله عليه قصد بحديثه الشريف جده عبد المطلب، وعمه أبا طالب، الذين قاما بأمره، وتكفلاه، وربياه صغيرا، حتى أنه صلوات الله عليه كان يعرف في مكة بيتيم ابي طالب، بعد وفاة جده عبد المطلب، فقد تكفل أبو طالب رسول الله (ص) وكان في الثامنة من العمر، وكان يفضله على أولاده ويقيه بهم.

2ـ حديث مشهور بين الشيعة والسنة ورواه القاضي الشوكاني أيضا في الحديث القدسي، أنه قال (ص): نزل علي جبرئيل فقال: إن الله يقرئك السلام ويقول: إني حرمت النار على صلب أنزلك و بطن حملك و حجر كفلك(37).

لأبي طالب عليه السلام حق على كل مسلم

قال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة: ج14 / 83 و84، ط دار إحياء التراث العربي: و لم أستجز أن أقعد عن تعظيم أبي طالب، فإني أعلم أنه لولاه لما قامت للإسلام دعامة، و أعلم أن حقه واجب على كل مسلم في الدنيا إلى أن تقوم الساعة، فكتبت:

ولو لا أبو طالب وابـنـه لما مثل الدين شخصا فقاما
فذاك بمكة آوى وحامى وهذا بيثرب جس الحماما
تكفل عبد مناف بأمر و أودى فكان علي تماما
فقل في ثبير مضى بعدما قضى ما قضاه و أبقى شماما
فلله ذا فاتحا للهدى و لله ذا للمعالي ختاما
و ما ضر مجد أبي طالب جهول لغا أو بصير تعامى
كما لا يضر إياة الصبــا ح من ظن ضوء النهار الظلاما

أشعار أبي طالب عليه السلام في الإسلام

وأدل دليل على إيمان أبي طالب (ع) أشعاره الصريحة بتصديق النبي ودين الإسلام، المطبوعة في ديوانه وفي كثير من كتب التاريخ والأدب، وقد نقل بعضها ابن أبي الحديد في شرح ‏نهج ‏البلاغة ج14/71ـ81 ط دار إحياء الكتاب العربي، منها ميميته المشهورة:

يرجون منا خطة دون نيلها ضراب و طعن بالوشيج المقوم
‏يرجون أن نسخى بقتل محمد و لم تختضب سمر العوالي من الدم
‏كذبتم و بيت الله حتى تفلقوا جماجم تلقى بالحطيم وزمزم
وتقطع أرحام وتنسى حليلة حليلا و يغشى محرم بعد محرم
‏على ما مضى من مقتك ما مضى من مقتكم و عقوقكم وغشيانكم في أمركم كل مأثم
وظلم نبي جاء يدعـو إلى الهدى وأمر أتى من عند ذي العرش قيـم(38)

وإليكم أيضا قصيدته اللامية الشهيرة والتي ذكرها ابن أبي الحديد في شرح النهج وذكرها كثيرة من الأعلام وهي مطبوعة في ديوانه أنقل إلى مسامعكم بعضها:

أعوذ برب البيت من كل طاعن علينا بسوء أو يلوح بباطل
ومن فاجر يغتابنا بمغيبة ومن ملحق في الدين ما لم نحاول
‏كذبتم و بيت الله نبزى محمد ولما نطاعن دونه ونناضل
وننصره حتى نصرع دونه ونذهل عن وأبنائنا الحلائل
وابيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمـة للأرامل
‏يلوذ بــه الهلاك من آل هاشم فهم عنده في نعمة وفواضل
‏لعمري لقد كلفت وجدا بأحمد وأحببته حب الحبيب المواصل
وجدت بنفسي دونه فحميته ودافعت عنه بالذرى والكواهل
‏فلا زال للدنيا جمالا لأهلها وشينا لمن عادى وزين المحافل
وأيده رب العباد بنصره وأظهر دينا حقه غير باطل