نعم هكذا عاش سلام الله عليه، يأكل الخبز الشعير اليابس ويؤكل الفقراء واليتامى البر بالعسل والتمر بالزيت، وكان يلبس الخشن، ويلبس الأرامل واليتامى والمعوزين ملابس فاخرة، أثمن مما كان يلبس هو (ع). وكان يقول: يجب على أئمة الحق أن يتأسوا بأضعف رعيتهم في الأكل والملبس.
ضرار بن ضرمة يصف عليا (ع)
نقل المحدثون من أعلامكم كابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة، والحافظ أبي نعيم في حلية الأولياء ج1/84، والعلامة الشبراوي في الإتحاف بحب الأشراف: 8 ومحمد بن طلحة في مطالب السؤول / الفصل السابع، والعلامة نور الدين بن صباغ المالكي في الفصول المهمة 128، والقندوزي في الينابيع: باب 51، وسبط ابن الجوزي في التذكرة / الباب الخامس آخر الباب، وغير هؤلاء من علمائكم والخبر مشهور عن ضرار بن ضمرة الضبائي قال في مجلس معاوية: أشهد بالله لقد رأيت علي بن أبي طالب في بعض مواقفه و قد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه، قابضا على لحيته، يتململ تململ السليم و يبكي بكاء الحزين، و يقول: يا دنيا غري غيري،أبي تعرضت؟ أم إلي تشوقت؟ هيهات هيهات، طلقتك ثلاثا لا رجعة فيها، فعمرك قصير و خطرك كبير وعيشك حقير، آه من قلة الزاد و بعد السفر و وحشة الطريق فبكى معاوية، وقال: رحم الله أبا حسن كان و الله كذلك(94).
بالله عليكم أنصفوا من من الزعماء والرؤساء والملوك والأمراء، هكذا عامل الدنيا وزهرتها وتغاضى عن زينتها وزخرفها؟!
الزهد عطية الله تعالى لعلي عليه السلام
روى كثير من علمائكم المحدثين، منهم العلامة محمد بن يوسف القرشي الكنجي الشافعي في كتابه كفاية الطالب / باب 46 / بإسناده إلى عمار بن ياسر قال: سمعت رسول الله (ص) يقول لعلي بن أبي طالب: إن الله قد زينك بزينة لم يتزين العباد بزينة أحب إلى الله منها، الزهد في الدنيا، و جعلك لا تنال من الدنيا شيئا و لا تنال الدنيا منك شيئا، و وهب لك حب المساكين فرضوا بك إماما و رضيت بهم أتباعا، فطوبى لمن أحبك و صدق فيك، و ويل لمن أبغضك و كذب عليك فأما الذين أحبوك و صدقوا فيك، فهم جيرانك في دارك و رفقاؤك في قصرك و أما الذين أبغضوك و كذبوا عليك فحق على الله أن يوقفهم موقف الكذابين يوم القيامة (95). " ثم قال هذا حديث حسن ".
علي عليه السلام إمام المتقين
أما في التقوى فهو سيد المتقين والممتاز بأعلى درجات اليقين والإنسان كلما ازداد يقينا ازداد تقوى، وهو الذي اشتهر عنه الخبر كما نقله كثير من أعلام محدثيكم وكبار علمائكم منهم محمد بن طلحة العدوي النصيبي في كتابه مطالب السؤول / الفصل السابع قال: وقد كان علي (ع) منطويا على يقين لا غاية لمداه ولا نهاية لمنتهاه وقد صرح بذلك تصريحا مبينا فقال (ع): لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا ، فكانت عبادته إلى الغاية القصوى تبعا ليقينه وطاعته في الذروة العليا لمتانة دينه.
وقد لقبه الله ورسوله (ص) بإمام المتقين، كما روى ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة: ج9/170، الخبر الحادي عشر من الأحاديث التي ذكرها في فضائل الإمام علي (ع). ورواه الحافظ أبو نعيم في حلية الأولياء والعلامة الهمداني في كتابه مودة القربى والعلامة محمد بن يوسف الكنجي الشافعي في كتابه كفاية الطالب / باب 54 عن أنس بن مالك قال: قال لي رسول الله (ص): يا أنس اسكب لي وضوءا فتوضأ ثم قام وصلى ركعتين ثم قال (ص): يا أنس أول من يدخل عليك من هذا الباب هو أمير المؤمنين وإمام المتقين و سيد المسلمين و قائد الغر المحجلين و خاتم الوصيين. قد وردت الرواية بألفاظ مختلفة وأنا أنقلها كما يخطر ببالي.
قال أنس: قلت: اللهم اجعله رجلا من الأنصار و كتمته إذ جاء علي (ع) فقال (ص): من هذا يا أنس؟ قلت: علي بن أبي طالب، فقام النبي (ص) مستبشرا فاعتنقه ثم جعل يمسح عرق وجهه بوجهه و يمسح عرق علي بوجهه فقال علي: يا رسول الله لقد رأيتك صنعت شيئا ما صنعت بي قبل. قال: و ما يمنعني و أنت تؤدي عني و تسمعهم صوتي و تبين لهم ما اختلفوا فيه من بعدي.
وفي شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد قال (ص): مرحبا بسيد المسلمين وإمام المتقين، رواه عن الحافظ أبي نعيم في الحلية.
وقال محمد بن طلحة في كتابه مطالب السؤول / آخر الفصل الرابع / أما حصول صفة التقوى له فقد أثبتها رسول الله (ص) بأبلغ الطرق وأعلاها فإنه قال له يوما: مرحبا بسيد المسلمين وإمام المتقين. ثم قال: إذا وصفه بكونه إمام أهل التقوى كان مقدما عليهم بزيادة تقواه.
وروى الحاكم في المستدرك: ج3/138، والشيخان مسلم والبخاري في صحيحيهما عن النبي (ص) قال: أوحي إلي في علي أنه سيد المسلمين وإمام المتقين وقائد الغر المحجلين (96).
وروى العلامة الكنجي في كفاية الطالب / باب 45 بسنده عن عبد الله بن أسعد بن زرارة قال: قال رسول الله (ص): لما أسري بي إلى السماء انتهى بي إلى قصر من لؤلؤ فراشه من ذهب يتلألأ، فأوحى الله إلي و أمرني في علي بثلاث خصال: بأنه سيد المسلمين و إمام المتقين و قائد الغر المحجلين(97).
وروى أحمد في المسند أن رسول الله (ص) يوما خاطب عليا، فقال: يا علي! النظر إلى وجهك عبادة، إنك إمام المتقين، من أحبك فقد أحبني ومن أحبني فقد أحب الله، ومن أبغضك فقد أبغضني ومن أبغضني فقد أبغض الله.
من الواضح أن وصف النبي (ص) أحدا وإعطائه اللقب ومدحه للشخص يفرق عن سائر الناس، فربما وصف الناس ملكا وسلطانا بما لا يليق فيغالون في الوصف والمدح، كمدح كثير من المؤرخين لكثير من الوزراء والأمراء والسلاطين، ولكن رسول الله (ص) منزه من التملق والمغالاة في مدح الأشخاص، ولا يقول إلا حقا، ولا يصف إلا واقعا، بل في مثل هذه القضايا فهو (ص) (ما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى)(98).
ولا سيما في هذا الأمر، إذ يؤكد فيقول: ليلة أسري بي إلى السماء انتهى بي إلى قصر من لؤلؤ فراشه من ذهب يتلألأ، فأوحى الله إلي و أمرني في علي بثلاث خصال: بأنه سيد المسلمين و إمام المتقين و قائد الغر المحجلين. فهذه خصائص عظيمة ومقامات كريمة خص الله تعالى بها وليه علي بن أبي طالب على لسان خاتم أنبيائه وسيد رسله، وبعد وصف رب العالمين وبيانه المبين لأمير المؤمنين سلام الله عليه لا يسع المسلمين إلا الخضوع أمامه والخشوع له والتسليم لأمره.
الشيخ عبد السلام: كل ما قلته من مناقب وفضائل سيدنا علي كرم الله وجهه فهو قليل من كثير ونحن نعرف أكثر مما قلتم حتى أن معاوية (رض) قال فيه: عقمت النساء أن يلدن مثل علي بن أبي طالب.
قلت: فكما أنه (ص) قد امتاز بنسبه ونورانية خلقته من حيث الورع والتقوى، فهو مقدم على الجميع من هذه الجهة أيضا.
وقد قال الله الحكيم في كتابه الكريم: ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ)(99).
فإذا كان أهل التقوى أكرم العباد عند الله تبارك وتعالى، فما بالكم بإمام المتقين وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)؟
وهنا قد خطر شيء في بالي وهو السؤال التالي: هل يحتمل في إمام المتقين أن يتبع الهوى ويعصي ربه لأجل الدنيا؟
الشيخ عبد السلام: لا يحتمل ذلك في سيدنا علي كرم الله وجهه، كيف وهو الذي طلق الدنيا ثلاثا، كما ذكرتم فيما نقلتم من ضرار بن ضمرة، فمقام سيدنا علي كرم الله وجهه أجل من أن ينسب إليه ذلك.
قلت: فعلى ذلك كانت أعمال الإمام علي (ع) من حركاته وسكناته وقيامه وقعوده وتكلمه وسكوته وموافقته ومخالفته وحربه وسلمه، كلها لله تعالى وإحقاقا للحق.
الشيخ عبد السلام: نعم هكذا كان سيدنا علي كرم الله وجهه.
فاقضوا أيها المنصفون!!
قلت: إذا كان كذلك، يجب أن تفكروا في عدم مبايعة الإمام علي (ع) لأبي بكر في أول الأمر، بل اعترض على خلافته اعتراضا شديدا.
والمفروض أن المتقي ولا سيما إمام المتقين، لا يترك الحق ولا يعارضه، وحديث رسول الله (ص) الذي نقلته لكم في بعض الليالي الماضية إذ قال (ص): علي مع الحق والحق مع علي حيثما دار.
فإذا كانت خلافة أبي بكر حقا! فلماذا وكيف لا يبايعه الإمام علي (ع)؟
بل عارضه بشدة، حتى انتهى الأمر إلى اقتحام دار فاطمة وعلي، وآل الهجوم إلى قتل الجنين ـ محسن ـ ووفاة السيدة فاطمة (ع) و....
[ وقد ذكرنا ذلك بالتفصيل في الليلة الماضية، مع ذكر المصادر من كتبكم ] وإذا كانت خلافة أبي بكر باطلا وخلافا، فلماذا أنتم تتمسكون بالباطل على يومنا هذا؟
الشيخ عبد السلام: إني أتعجب من كلام الشيعة حيث يقولون: سيدنا علي كرم الله وجهه لم يبايع أبا بكر (رض)، فقد ذكر المؤرخون كلهم حتى مؤرخيكم: بأن سيدنا علي كرم الله وجهه بايع أبا بكر بعد وفاة فاطمة الزهراء، ولم يخالف الإجماع.
قلت: العجب في كلامك هذا، وكأنك نسيت حديثنا وحوارنا في الليالي الماضية، حيث أثبتنا انه (ع) أجبر وأكره على البيعة، فعدم رغبته وعدم مطاوعته في بيعة أبي بكر دليل على بطلان خلافته، ثم أنت تعترف بأنه (ع) ما بايع إلا بعد وفاة الزهراء سيدة النساء (ع)، وصرح أعلامكم كالبخاري ومسلم وغيرهما أن وفاتها كانت بعد وفاة النبي (ص) بستة أشهر، فهل في هذه المدة كان علي (ع) تاركا للحق وسالكا غير سبيل المتقين؟!
الشيخ عبد السلام: لقد كان سيدنا علي كرم الله وجهه أعرف من غيره بتكليفه ولا يجوز لنا أن نتدخل في خلافات الصحابة ونجدد قضايا مرت عليها الدهور والقرون!!
قلت: إن هذا الكلام انهزام من الواقع والحق وليس بجواب مرضي في الحوار، لأن تلك الخلافات تمسنا أيضا. إذ يجب على كل مسلم بل كل إنسان أن يبحث عن الحقائق، ويلتزم بالحق، ويعتنقه، ويصدق الواقع المعلوم، ويبتعد عن المكذوب الموهوم.
الشيخ عبد السلام: إذا أردت بهذا الاستدلال والبرهان أن تبين أن أبا بكر (رض) كان باطلا وخلافته كانت غير مشروعة ومناقضة لدين الله فلماذا سكت وسكن الإمام علي كرم الله وجهه! بل كان عليه أن ينهض ويثور على الخليفة وأنصاره، ويسترجع حقه ويبطل الباطل، وهو ذلك الشجاع الذي لا تأخذه في الله لومة لائم.
سكوت بعض الأنبياء واعتزالهم عن أممهم
قلت: نحن نعتقد بأن الأنبياء والأوصياء يعملون في المجتمع ويتعاملون مع أممهم على أساس الأوامر التي يتلقونها من الله عز وجل، لذلك لا نعترض عليهم ولا ننتقد أعمالهم بأنهم سكتوا أو لماذا لم يقاتلوا أو لماذا تكلموا؟!
وإذا راجعنا تاريخ الأنبياء، نجد كثيرا منهم كانوا مغلوبين مقهورين او مهجورين ومنعزلين، فهذا القرآن الحكيم يحدثنا عن نوح وهو من أولي العزم وشيخ الأنبياء: (فدعا ربه أني مغلوب فانتصر)(100).
ويحدثنا عن اعتزال ابراهيم الخليل لقومه قائلا:( وَ أَعْتَزِلُكُمْ وَ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ أَدْعُوا رَبِّي)(101).
الشيخ عبد السلام: أظن أنه (ع) اعتزل عنهم فلبا لا جسما.[ فهو وإن كان مخالفا لهم قلبا، ولكنه كان يعيش بينهم ويشاركهم ].
قلت: ولكن لو راجعت التفاسير لوجدت أن أكثر المفسرين قالوا: بأنه (ع) فارقهم بجسمه أيضا وابتعد عنهم، فالفخر الرازي في تفسيره الكبير: ج5/809 قال: الاعتزال للشيء هو التباعد عنه، والمراد إني أفارقكم في المكان وأفارقكم في طريقتكم.
وذكر أرباب السير والتاريخ أن ابراهيم هاجر من بابل، وسكن الجبال مدة سبعة أعوام الأصنام، ثم رجع إليهم يدعوهم إلى عبادة الله وحده، وأن يتركوا عبادة الأصنام، ثم جرى ما جرى حتى ألقوه في النار، فجعلها الله سبحانه بردا وسلاما.
ويحدثنا القرآن الحكيم عن فرار موسى بن عمران وخروجه من بلده خائفا، فيقول: (فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)(102).
ويحدثنا الله تعالى في كتابه عن مخالفة قوم موسى لأخيه وخليفته هارون، وأنهم عبدوا العجل الذي صنعه السامري، فلما عاد إليهم موسى ورأى انقلابهم وكفرهم وسكوت هارون على أفعالهم المخالفة للدين وللشريعة الإلهية، عاتبه على ذلك، كما نفهم من قول الله سبحانه: (وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَ كادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأَْعْداءَ)(103).
تشابه أمر علي عليه السلام بهارون
فكما أن هارون كان خليفة أخيه موسى بن عمران في قومه، ولكنهم لن يأخذوا بقوله وخالفوه وتوجهوا إلى العجل الذي صنعه السامري لهم فعبدوه، ولما منعهم هارون من ذلك، وقال لهم: هذا شرك وكفر بالله عز وجل، هاجموه وكادوا يقتلوه ، ولما لم يجد أعوانا وأنصارا سكن وسكت وتركهم في غيهم وطغيانهم يعمهون.وطغيانهم يعمهون.
كذلك أمير المؤمنين وسيد الوصيين علي (ع) ـ الذي شبهه النبي (ص) بهارون في حديث المنزلة وقد ذكرناه في الليالي السالفة مع المصادر والمعتبرة عندكم ـ لما رأى القوم بعد رسول الله (ص) انقلبوا على أعقابهم وتركوا الحق وخالفوا أمر ربهم فوعظهم وأرشدهم، ولكنهم هاجموه وكادوا يقتلونه، فسكت وسكن وتحمل وصبر.
وذكر كبار علمائكم: أن عمر وأصحابه لما جاءوا بعلي (ع) إلى المسجد، وطلبوا منه البيعة، وهددوه بالقتل إن لم يبايع، نظر إلى قبر رسول الله (ص) وأشار إليه مخاطبا: يا (ابن أم القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني)(104).
ثم إن سيرة خاتم النبيين (ص) خير دليل لنا، وهو (ص) كتم رسالته في مكة عشر ثم أعلنها ثلاث سنين لا يطالب أهلها إلا بكلمة التوحيد، هاتفا: قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، وسكت عن سائر عاداتهم الجاهلية، ومع ذلك هجموا عليه الدار وأرادوا قتله، ففر منهم مهاجرا إلى يثرب، لأنه لم يكن له أنصار في مكة يتمكنون من حمايته والذب عنه. وقد قيل:
الفرار مما لا يطاق من سنن المرسلين.
والأعجب من هذا انه (ص) حتى عندما أصبح مقتدرا وحاكما ما تمكن من تغيير ما كان يرى تغييره لازما.
الشيخ عبد السلام: هذا كلام غريب وأمر عجيب! كيف عجز رسول الله (ص) من تغيير ما كان يلزم تغييره؟!
قلت: هذا الأمر العجيب الغريب عندكم قد نقله بعض كبار أعلامكم منهم أحمد بن حنبل في المسند، والعلامة الحميدي في الجمع بين الصحيحين عن أم المؤمنين عائشة أنها قالت: قال لي رسول الله (ص): يا عائشة! لو لا أن قومك حديثو عهد بشرك، لهدمت الكعبة فألزقتها بالأرض و جعلت لها بابين: بابا شرقيا و بابا غربيا، و زدت فيها ستة أذرع من الحجر، فإن قريشا اقتصرتها حيث بنت الكعبة(105).
فإذا كان رسول الله (ص) لا يقدم على مثل ذلك الأمر المهم رعاية لبعض المصالح، فكذلك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) وهو تلميذ النبي (ص)، والمتعلم منه، فهو (ع) رعاية لبعض الجهات الدينية العامة والمصالح الإسلامية الهامة سكت وسكن وصبر وتحمل كل ما أوردوه عليه من الظلم والجفاء، بسبب البغضاء والشحناء التي كانت مكتومة في صدورهم ومكنونة في قلوبهم، وقد كان النبي (ص) يعلم ذلك فيخبر عليا في حياته ويبكي على غربته ومظلوميته، كما روى الخوارزمي في مناقبه والعلامة الفقيه ابن المغازلي أيضا في مناقبه: أن النبي (ص) يوما نظر إلى علي (ع) فبكى، فقال له: ما يبكيك يا رسول الله صلى الله عليك؟ قال (ص): ضغائن في صدور أقوام لا يبدونها حتى أفارق الدنيا. قال (ع): فما أصنع يا رسول الله؟ قال: تصبر ، فيعطيك ربك أجر الصابرين(106).
لماذا قعد علي عليه السلام ولم يطالب بحقه؟
إن عليا (ع) كان متفانيا في الله سبحانه، فلا يريد شيئا لنفسه و لا يطلب المصالح الشخصية، بل أثبت في حياته وسلوكه أنه (ع) كان وراء المصالح العامة، وكان يبتغي مرضات الله تعالى بالحفاظ على الدين، وإبقاء شريعة سيد المرسلين، و لا يخفى أن الإسلام في ذلك الوقت كان بعد جديدا ولم ينفذ في قلوب كثير من معتنقيه، فكانوا مسلمين بألسنتهم ولما يدخل الإيمان في قلوبهم، لذا كان الإمام علي (ع) يخشى من حرب تقع بين المسلمين إذا جرد السيف لمطالبة حقه بالخلافة التي كانت له لا لغيره، أو مطالبة فدك لفاطمة الزهراء (ع) أو مطالبة إرثها من أبيها رسول الله (ص)، الذي منعها أبو بكر بحجة الحديث الذي افتراه على النبي (ص): " نحن معاشر الأنبياء لا نورث "!
فسكت علي (ع) وسكن لكي لا تقع حرب داخلية، لأنه كان يرى في المطالبة بحقه في تلك الظروف الزمنية زوال الدين وإفناء الإسلام لو وقعت حرب بين المسلمين. وقد كان أكثرهم ينتظرون الفرصة حتى يرتدوا إلى الكفر.
لذلك جاء في روايات أهل البيت والعترة الطاهرة (ع) أن فاطمة الزهراء سلام الله عليها لما رجعت من المسجد بعدما خطبت خطبتها العظيمة وألقت الحجج على خصومها، خاطبت أبا الحسن (ع) وهو جالس في البيت فقالت: يا بن أبي طالب... اشتملت شملة الجنين، و قعدت حجرة الظنين، نقضت قادمة الأجدل، وخانك ريش الأعزل! هذا ابن أبي قحافة يبتزّني نحلة أبي و بلغة ابني، لقد أجهر في خصامي، و ألفيته الألدّ في كلامي... الخ.
فأجابها علي (ع): نهنهي عن نفسك يا ابنة الصفوة، و بقية النبوّة، فما ونيت عن ديني، و لا أخطأت مقدوري، فإن كنت تريدين البُلْغةَ، فرزقك مضمون، و كفيلك مأمون، و ما أعدّ لك أفضل ممّا قطع عنك.
قالوا: فبينما علي (ع) يكلمها ويهدؤها وإذا بصوت المؤذن ارتفع ، فقال لها علي (ع): يا بنت رسول الله! إذا تحبين أن يبقى هذا الصوت مرتفعا ويخلد ذكر أبيك رسول الله (ص) فاحتسبي الله واصبري.
فقالت: حسبي الله. وأمسكت.
فضحى علي (ع) بحقه وحق زوجته فاطمة وسكت عن المغتصبين، حفظا للدين وشريعة سيد المرسلين من الضياع والانهيار.
أسباب قعود علي (ع)
نقل ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة: ج1 / 307، ط. إحياء الكتب العربية عن المدائني عن عبدالله بن جنادة، ونقله غير ابن أبي الحديد أيضا، أنه (ع) خطب في أول إمارته وخلافته بالمدينة المنورة:
فحمد الله وأثنى عليه، و ذكر النبي وصلى عليه ثم قال: أما بعد ، فإنه لما قبض الله نبيه (ص)، قلنا: نحن أهله و ورثته و عترته و أولياؤه دون الناس، لا ينازعنا سلطانه أحد، و لا يطمع في حقنا طامع، إذ انبرى لنا قومنا فغصبونا سلطان نبينا، فصارت الإمرة لغيرنا و صرنا سوقة، يطمع فينا الضعيف، و يتعزز علينا الذليل، فبكت الأعين منا لذلك، و خشنت الصدور و جزعت النفوس، و ايمُ الله لو لا مخافة الفرقة بين المسلمين، و أن يعود الكفر و يبور الدين، لكنا على غير ما كنا لهم عليه... الخ.
ونقل ابن أبي الحديد أيضا بعد هذه الخطبة في صفحة 308 تحت عنوان : خطبته عند مسيره للبصرة، قال: و روى الكلبي أنه لما أراد علي (ع) المسير إلى البصرة، قام فخطب الناس، فقال بعد أن حمد الله و صلى على رسوله (ص): إن الله لما قبض نبيه استأثرت علينا قريش بالأمر و دفعتنا عن حق نحن أحق به من الناس كافة، فرأيت أن الصبر على ذلك أفضل من تفريق كلمة المسلمين و سفك دمائهم، و الدين يمخض مخض الوطب يفسده أدنى وهن، و يعكسه أقل خلف... الخ.
ولعلي (ع) في نهج البلاغة كتاب إلى أهل مصر، بعثه مع مالك الأشتر رحمه الله تعالى، جاء فيه:
أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بَعَثَ مُحَمَّداً (ص) نَذِيراً لِلْعَالَمِينَ وَ مُهَيْمِناً عَلَى الْمُرْسَلِينَ، فَلَمَّا مَضَى (ص)، تَنَازَعَ الْمُسْلِمُونَ الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ، فَوَاللَّهِ مَا كَانَ يُلْقَى فِي رُوعِي وَ لا يَخْطُرُ بِبَالِي أَنَّ الْعَرَبَ تُزْعِجُ هَذَا الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ (ص) عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَ لا أَنَّهُمْ مُنَحُّوهُ عَنِّي مِنْ بَعْدِهِ (ص)، فَمَا رَاعَنِي إِلا انْثِيَالُ النَّاسِ عَلَى فُلانٍ يُبَايِعُونَهُ، فَأَمْسَكْتُ بِيَدِي حَتَّى رَأَيْتُ رَاجِعَةَ النَّاسِ قَدْ رَجَعَتْ عَنِ الْإِسْلامِ، يَدْعُونَ إِلَى مَحْقِ دَيْنِ مُحَمَّدٍ (ص)، فَخَشِيتُ إِنْ لَمْ أَنْصُرِ الإسْلامَ وَ أَهْلَهُ أَنْ أَرَى فِيهِ ثَلْماً أَوْ هَدْماً، تَكُونُ الْمُصِيبَةُ بِهِ عَلَيَّ أَعْظَمَ مِنْ فَوْتِ وِلايَتِكُمُ الَّتِي إِنَّمَا هِيَ مَتَاعُ أَيَّامٍ قَلائِلَ يَزُولُ مِنْهَا مَا كَانَ، كَمَا يَزُولُ السَّرَابُ وَ كَمَا يَتَقَشَّعُ السَّحَابُ، فَنَهَضْتُ فِي تِلْكَ الْأَحْدَاثِ حَتَّى زَاحَ الْبَاطِلُ وَ زَهَقَ وَ اطْمَأَنَّ الدِّينُ وَ تَنَهْنَهَ.
ونقل ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ج 6 / 94، ط. إحياء الكتب العربي تحت عنوان: خطبة الامام علي (ع) بعد مقتل محمد بن أبي بكر، قال: و روى إبراهيم ـ صاحب كتاب الغارات ـ عن رجاله عن عبد الرحمن بن جندب عن أبيه قال: خطب الامام علي (ع) بعد فتح مصر و قتل محمد بن أبي بكر. فنقل خطبة بليغة ذكر فيها وقائع أليمة وقعت بعد وفاة النبي (ص)، وذكر بعض ما كتبه لأهل مصر الذي نقلته لكم قبل هذا، وأشار في خطبته إلى الشورى التي أمر بها عمر بن الخطاب، وخرج بالنتيجة قائلا:
فصرفوا الولاية إلى عثمان و أخرجوني منها... ثم قالوا: هلم فبايع و إلا جاهدناك، فبايعت مستكرها و صبرت محتسبا، فقال قائلهم: يا ابن أبي طالب، إنك على هذا الأمر لحريص، فقلت: أنتم أحرص مني و أبعد أينا أحرص؟ أنا الذي طلبت ميراثي و حقي الذي جعلني الله و رسوله أولى به، أم أنتم إذ تضربون وجهي دونه و تحولون بيني و بينه! فبهتوا، و الله لا يهدي القوم الظالمين.
فيحصل من هذه الكلمات والجملات أنه (ع) قعد عن حقه وسكت، رعاية لما هو أهم، إذ أنه كان يعلم بأن المنافقين وأعداء الدين يترصدون ويتربصون ليوقعوا بالمسلمين ويقضوا على الدين، وإذا كان الإمام علي (ع) يقوم بمطالبة حقه ويجرد الصمصام، لاغتنم المنافقون واليهود والنصارى الفرصة وقضوا على الإسلام. لذلك صبر وتحمل وسكت على حقه وتنازل.
بعدما احتج عليهم وأثبت حقه في الأشهر الست التي ما بايع فيها كما في كتب أعلامكم، فكان (ع) يتكلم مع رؤوس المهاجرين والأنصار ويستدل على حقوقه المغصوبة بالآيات البينات والسنن الواضحات والأمور الظاهرات، فبعد ما بين لهم الحق وأتم عليهم الحجج بايع مكرها لا طائعا فصبر على أمر من العلقم وأحر من الجمر، كما أشار إلى حاله في الخطبة الشقشقية المروية في نهج البلاغة وهي معروفة قال (ع):
أَمَا وَ اللَّهِ لَقَدْ تَقَمَّصَهَا ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ وَ إِنَّهُ لَيَعْلَمُ أَنْ مَحَلِّي مِنْهَا مَحَلُّ الْقُطْبِ مِنَ الرَّحَى يَنْحَدِرُ عَنِّي السَّيْلُ وَلا يَرْقَى إِلَيَّ الطَّيْرُ فَسَدَلْتُ دُونَهَا ثَوْباً وَ طَوَيْتُ عَنْهَا كَشْحاً وَ طَفِقْتُ أَرْتَئِي بَيْنَ أَنْ أَصُولَ بِيَدٍ جَذَّاءَ أَوْ أَصْبِرَ عَلَى طَخْيَةٍ عَمْيَاءَ يَهْرَمُ فِيهَا الْكَبِيرُ وَ يَشِيبُ فِيهَا الصَّغِيرُ وَ يَكْدَحُ فِيهَا مُؤْمِنٌ حَتَّى يَلْقَى رَبَّهُ فَرَأَيْتُ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى هَاتَا أَحْجَى فَصَبَرْتُ وَ فِي الْعَيْنِ قَذًى وَ فِي الْحَلْقِ شَجًا أَرَى تُرَاثِي نَهْباً حتى إذا مضى الأول لسبيله فأدلى بها إلى عمر من بعده... الخ.
ولا أطيل عليكم أكثر من هذا، إنما ذكرت لكم بعض كلماته وخطبه (ع) لنعرف آلامه القلبية من تلك الأحداث ثم نعرف علل قعوده وسكوته عن حقه.
هل الخطبة الشقشقية للإمام علي عليه السلام
الشيخ عبد السلام: أولا: ليس في هذه الخطبة ما يدل على تألمات سيدنا علي كرم الله وجهه.
ثانيا: المشهور أن هذه الخطبة من إنشاء الشريف الرضي، ألحقها بخطب أمير المؤمنين وليست من إنشاء سيدنا علي، وقد ثبت في التاريخ أنه ما كان ناقما على خلافة الخلفاء الراشدين قبله بل كان راضيا منهم ومن منجزاتهم.
قلت: كلام الشيخ ينبعث من إفراطه في حب الخلفاء والتعصب لهم، وإلا فإن تألمات الإمام علي (ع) واضحة في غير الخطبة الشقشقية أيضا وه لا تخفى على كل من تابع الأحداث والقضايا التي وقعت وحدثت بعد رسول الله (ص)، ولا سيما على المتتبع لخطب الإمام وكتبه وكلماته واحتجاجاته مع مناوئيه وخصمائه.
وأما كلامك بأن هذه الخطبة من إنشاء السيد الرضي (رضوان الله تعالى عليه)، فهو افتراء منك على ذلك السيد الزاهد العابد الورع التقي، فإنه أجل وأورع من أن يضع خطبة وينسبها إلى سيد الأوصياء (ع)، فإن هذا الكلام بعيد عن الإنصاف، وبعيد من أهل التحقيق، ولقد تعبت أسلافك، وهم تبعوا المعاندين المتعصبين، وإلا لو كنت تطالع كتب أعلامكم وتحقق عن الخطبة في تصانيف علمائكم لوجدت اعترافهم وتصريحهم بأنها من خطب الإمام علي (ع) لا محالة.
والشارحون لنهج البلاغة من علمائكم مثل ابن أبي الحديد، والشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية، والشيخ محمد الخضرمي في كتاب محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية صفحة 27 وغيرهم قد صرحوا أن الخطبة الشقشقية من بيان الإمام علي (ع) وردوا القائلين بأنها من إنشاء الشريف الرضي، وهم بعض المعاندين والمتعصبين من المتأخرين، وإلا فأكثر من أربعين عالم من الفريقين الشيعة والسنة شرحوا كتاب نهج البلاغة وكلهم أذعنوا بأن الخطبة الشقشقية أيضا من كلام الإمام علي (ع) لأنها على نسق خطبه الأخرى، إذ بيانه (ع) يمتاز ببلاغة منفردة تخصه ولا يمكن لأحد أن يشابهه ويقلده فيها حتى الشريف الرضي على ما كان يتمتع به من الأدب الرفيع والفصاحة والبلاغة في التكلم والكتابة، فهو عاجز أن ينسج مثل الخطبة الشقشقية، وهذا ليس كلامي وإنما هو كلام علمائكم الكبار مثل الشيخ محمد عبده والعلامة ابن أبي الحديد فإنه نقل في آخر شرحه على الخطبة الشقشقية في الجزء الأول، عن المصدق بن شبيب أنه قال لابن الخشاب وهو من أساتيذ هذا الفن: إن كثيرا من الناس يقولون إنها من كلام الرضي رحمه الله تعالى، فقال: أنى للرضيّ و لغير الرضيّ هذا النفس و هذا الأسلوب ! قد وقفنا على رسائل الرضي و عرفنا طريقته و فنه في الكلام المنثور، و ما يقع مع هذا الكلام في خل و لا خمر.
الخطبة الشقشقية كانت قبل مولد الرضيّ
وبغض النظر عن البلاغة الخاصة بكلام الإمام علي (ع) والمقايسات التي أشار إليها ابن الخشاب وغيره، فإن كثيرا من علماء الفريقين قالوا: إنهم وجدوا هذه الخطبة في الكتب المنشرة قبل أن يولد الشريف الرضي وقبل أن يولد أبوه أبو أحمد النقيب ـ نقيب الطالبيين ـ، فقد نقل ابن أبي الحديد في آخر شرحه للخطبة، عن الشيخ عبدالله بن أحمد المعروف بابن الخشاب أنه قال: والله لقد وقفت على هذه الخطبة في كتب صنفت قبل أن يخلق الرضي بمائتي سنة، و لقد وجدتها مسطورة بخطوط أعرفها، و أعرف خطوط من هو من العلماء و أهل الأدب قبل أن يخلق النقيب أبو أحمد والد الرضي.
ثم قال ابن أبي الحديد: و قد وجدت أنا كثيرا من هذه الخطبة في تصانيف شيخنا أبي القاسم البلخي إمام البغداديين من المعتزلة و كان في دولة المقتدر قبل أن يخلق الرضي بمدة طويلة و وجدت أيضا كثيرا منها في كتاب أبي جعفر بن قبة أحد متكلمي الإمامية و هو الكتاب المشهور المعروف بكتاب الإنصاف و كان أبو جعفر هذا من تلامذة الشيخ أبي القاسم البلخي رحمه الله تعالى و مات في ذلك العصر قبل أن يكون الرضي رحمه الله تعالى موجودا. انتهى.
وقال كمال الدين ابن ميثم البحراني الحكيم المحقق في كتابه شرح نهج البلاغة في الخطبة: إني وجدت هذه الخطبة في كتاب الإنصاف لابن قبه، وهو متوفى قبل أن يولد الشريف الرضي.
ووجدتها أيضا بخط الوزير ابن فرات، كان قد كتبها في ميلاد الرضي بستين سنة.
فالدلائل والبينات قائمة على أن الخطبة كانت في الكتب والمصنفات قبل أن يولد الشريف الرضي رحمه الله تعالى، ولكن المعاندين المتعصبين خلقوا هذه الفرية بأن الشقشقية من كلام الشريف الرضي، حتى يجدوا لأنفسهم مفرا من الجواب.
وعلى فرض صحة كلامهم، فلو فروا وأعرضوا عن قبول الخطبة ومحتواها من هذا الطريق، فما يصنعون مع سائر الخطب التي تعرض فيها أمير المؤمنين (ع) أيضا إلى الحوادث والوقائع التي أحدثوها في الإسلام، فيشكو فيها الإمام علي (ع)، وبيدي ظلامته، ويفشي مكنون صدره وآلام قلبه من سوء سلوك القوم وظلمهم له ولأهل بيت المصطفى (ص)؟
وقد أشرنا إلى بعضها في المجالس السالفة، ومع ذلك فالشيخ عبد السلام ـ سلمه الله ـ يقول: ما كان علي ناقما من خلافة الراشدين قبله، وكان راضيا على ما أنجزوا، ولا أعلم كيف عرف رضاه وهو (ع) كان في كل فرصة ومناسبة يعرب عن سخطه من عمل القوم؟ ويقول: إنهم أخروه عن مقامه وهو أولى بالنبي (ص) من غيره، كما في الخطبة المرقمة 190 في شرح ابن أبي الحديد. قال: وَ لَقَدْ عَلِمَ الْمُسْتَحْفِظُونَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ (ص) أَنِّي لَمْ أَرُدَّ عَلَى اللَّهِ وَ لا عَلَى رَسُولِهِ سَاعَةً قَطُّ وَ لَقَدْ وَاسَيْتُهُ بِنَفْسِي فِي الْمَوَاطِنِ الَّتِي تَنْكُصُ فِيهَا الأبْطَالُ وَ تَتَأَخَّرُ الأقْدَامُ نَجْدَةً أَكْرَمَنِيَ اللَّهُ بِهَا.
وَ لَقَدْ قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ (ص) وَ إِنَّ رَأْسَهُ لَعَلَى صَدْرِي، وَ لَقَدْ سَالَتْ نَفْسُهُ فِي كَفِّي فَأَمْرَرْتُهَا عَلَى وَجْهِي وَ لَقَدْ وُلِّيتُ غُسْلَهُ (ص) وَ الْمَلائِكَةُ أَعْوَانِي فَضَجَّتِ الدَّارُ وَ الأفْنِيَةُ مَلأ يَهْبِطُ وَ مَلأ يَعْرُجُ وَ مَا فَارَقَتْ سَمْعِي هَيْنَمَةٌ مِنْهُمْ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ حَتَّى وَارَيْنَاهُ فِي ضَرِيحِهِ فَمَنْ ذَا أَحَقُّ بِهِ مِنِّي حَيّاً وَ مَيِّتاً؟!
ثم قال: فَوَالَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ إِنِّي لَعَلَى جَادَّةِ الْحَقِّ وَ إِنَّهُمْ لَعَلَى مَزَلَّةِ الْبَاطِلِ.
ليت شعري ما يقول الشيخ وأتباعه في هذه الخطبة وأمثالها؟ وبأي بيان تريدون أن يفشي الإمام علي (ع) سخطه وعدم رضاه في خلافة أبي بكر والذين تقدموا عليه وأخروه؟
فحق الإمام علي (ع) واضح ولائح، وفضله وعلوه على غيره ظاهر باهر، ولا يمكن إخفاؤه بالكلمات (يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون)(107).
الشيخ عبد السلام: إني أؤجل جوابي إلى الليلة المقبلة إن شاء الله والآن نختم المجلس فقد طال بنا وتعب الحاضرون. فتواعدنا وخرجوا.