فمعاوية وأصحابه وأنصاره من أهل جهنم لا محالة، بل هم في الدرك الأسفل من النار.
الشيخ عبد السلام: نحن لا ننكر هذه الأخبار والأحاديث الواردة في حق سيدنا علي كرم الله وجهه، ولكن الصحابة مستثنون لأن الله سبحانه غفر لهن وأعد لهم جنات النعيم كما عاودهم في آيات من الذكر الحكيم. ولا ينكر أن معاوية (رض) كان من الصحابة المقربين لرسول الله (ص). فيجب احترامه لصحبته للنبي (ص) ولقربه منه.
الصحابة أخيار وأشرار
قلت: لقد ناقشنا الموضوع في الليالي الماضية، وأثبتنا أن كثيرا ممن أدرك النبي (ص) وحظي بصحبته ما كان أهلا لذلك، ولم يكتسب منه الدين والأخلاق الحميدة التي جاء بها، وأمر أصحابه أن يتخلقوا بها، فبقوا على جهالتهم وسيئات أخلاقهم فعصوا رسول الله (ص) وعاتبهم سبحانه في غير موضع من كتابه الحكيم. ولكي تعرفوا أن المصاحبة والصحبة مع الأخيار والأبرار ومع الأنبياء والمرسلين، لا تكون منقبة ولا شرفا وإنما الفضل والشرف في حسن الصحبة، نرجع إلى القرآن الكريم لنعرف تعبيره وتعريفه لهذه الكلمة ونعم الحكم الله سبحانه: قال: (ما ضَلَّ صاحِبُكُم ْ وَ ما غَوى)(55).
وقال: (قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَ فُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ...)(56).
وقال: (... فَقالَ لِصاحِبِهِ وَ هُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَ أَعَزُّ نَفَراً)(57).
وفي الآية 38 (قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَ هُوَ يُحاوِرُهُ أَ كَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ..) الخ.
وقال تعالى: (أَ وَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ...)(58).
وقال: (... كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الأَْرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى...)(59).
وقال تعالى: في سورة يوسف (الصديق) حكاية عنه (ع): (يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَ أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ)(60).
فنكتشف من هذه الآيات الكريمة ونعرف بأن الصاحب يطلق على المؤمن والكافر، فلا خصوصية في الصحبة.
ومن البديهي أن الآيات الشريفة التي نزلت في مدح صحابة النبي (ص) لا تعمهم بل تخص أخيارهم، كما أن الآيات التي نزلت في ذمهم وعتابهم أيضا تخص أشرارهم ولا تشمل الأبرار منهم.
ولا ينكر أن ممن كان حول النبي (ص) من الصحابة الذين يجالسوه ويعاشروه كانوا منافقين، كما نعتقد أن بعض أصحابه الأبرار الميامين الأخيار كانوا في أعلا مراتب الإيمان واليقين بحيث ما كان مثلهم في أصحاب الأنبياء السابقين صلوات الله عليهم أجمعين وكلكم تعلمون أن عبد الله بن أبي، وأبا سفيان، والحكم بن العاص ، وأبا هريرة، وثعلبة، ويزيد بن أبي سفيان، والوليد بن عقبة، وحبيب بن مسلمة، وسمرة بن جندب، وعمرو بن العاص، وبسر بن أرطاة والمغيرة بن شعبة، ومعاوية بن أبي سفيان، وذي الثدية، رأس الخوارج وأمثالهم كانوا يجالسون رسول الله (ص) ويصحبوه في السفر والحضر وفي المسجد والمنزل ويتظاهرون بالإسلام، ولكنهم كم أشعلوا نار الفتنة والشقاق وساروا في طريق الخلاف والنفاق، حتى طرد رسول الله بعضهم، ولعن آخرين، وقاطع جماعة منهم، وفضح بعضهم و شهرهم على رؤوس الأشهاد؟! وممن لعنه رسول الله (ص) معاوية وآباه وأخاه.
وكم من الصحابة ارتدوا بعد وفاة النبي (ص) وأصبحوا مصدق الآية الكريمة: (وَ ما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ...)(61)؟.
مضافا إلى الآيات القرآنية، توجد روايات رواها علماؤكم وأئمتكم عن النبي (ص) تؤيد ما نقول. فقد روى البخاري في صحيحه خبرين عن سهل بن سعد، وآخر عن عبد الله بن مسعود باختلاف يسير في الألفاظ، والمعنى واحد، أن رسول الله قال: أنا فرطكم على الحوض، و ليرفعن إلي رجال منكم حتى إذا أهويت إليهم لأناولهم اختلجوا دوني، فأقول: أي رب أصحابي! فيقول: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك!!
وروى أحمد بن حنبل في المسند، والطبراني في الكبير، وأبو النصر في الإبانة، بإسنادهم عن ابن عباس عن النبي (ص) قال: أنا آخذ بحجزكم، أقول : اتقوا النار، واتقوا الحدود فإذا مت تركتكم و أنا فرطكم على الحوض فمن ورد فقد أفلح، فيؤتى بأقوام فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: يا رب أمتي! فيقول: إنهم لم يزالوا بعدك يرتدون على أعقابهم. (وفي رواية الطبراني في الكبير) فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، مرتدين على أعقابهم.
فمما يثير العجب ويبعث الأسف في النفس، أن معاوية وابنه يزيد مع كثرة الدلائل والشواهد على كفرهما وإنكارهما للدين والوحي(62) ، تعدونها مؤمنين، بل تلقبونها بأمير المؤمنين، أي تحسبون خلافتهما شرعية، وتدافعون عنهما باليد واللسان، بل بالمال والنفس وإن كان بعض أعلامكم وافقونا في كفر معاوية وابنه وكتبوا في ذلك مثل ابن الجوزي وقد ألف كتاب " الرد على المتعصب العنيد المانع من ذم يزيد ".
والسيد محمد بن عقيل وقد ألف كتاب " النصائح الكافية لمن يتولى معاوية " طبع في مطبعة النجاح ببغداد سنة 1367 هجرية. ولكن تصرون إصرارا باطلا، في عدم إيمان أبي طالب (ع) وهو من السابقين في الإيمان والذب عن الإسلام والدفاع عن نبيه صلوات الله عليه وآله.
وهذا لا يكون إلا من تأثير بني أمية والنواصب والخوارج فيكم.
ولا أدري متى تزيلون عن دينكم ومذهبكم شبهات أعداء آل محمد وتأثيرات بني أمية؟! ومتى تحررون مذهبكم ودينكم من التعصبات والتقيدات المتخذة من الآباء والأسلاف؟!
لقد حان الوقت أن تفتحوا أبصاركم وتنبشوا التاريخ وكتب السير والحوادث وتفتشوا عن الحقائق المستندة بالأدلة والبراهين العقلية والنقلية من الكتاب والسنة الشريفة، فتتمسكوا بالحق المبين وتلتزموا بشريعة سيد المرسلين.
أما آن لكم أن تتركوا أقاويل بني أمية ودعاياتهم وأكاذيبهم، وترجعوا إلى آل محمد وعترته، وتأخذوا دينكم وأحكامه ومعالمه من أهل بيته (ع)؟!
أما جعل النبي (ص) أهل البيت عدل القرآن بقوله: " إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي " وجعلهم مرجعا للمسلمين فيما يختلفون؟!
وأجمع آل محمد (ص) وعترته على أن أبا طالب (ع) كان من المؤمنين وارتحل من الدنيا بكمال الدين والإيمان.
دلائل أخرى على إيمان أبي طالب (ع)
وهذا أصبغ بن نباتة من الرواة الثقاة حتى عند علمائكم يروي عن أمير المؤمنين (ع) أنه قال: والله ما عبد أبي، ولا جدي عبد المطلب، ولا هاشم، ولا عبد مناف، صنما قط.
فهل من الإنصاف أن تتركوا قول أهل بيت النبوة والعترة الطاهرة، وتأخذوا بكلام أعدائهم مثل المغيرة بن شعبة الفاجر؟!
أو هل من الإنصاف أن تأولوا أشعار أبي طالب في الإسلام وفي النبي (ص)، وتصديقه لهما، وإعلانه الإيمان بهما بكل صراحة، فلا تقبلوا كل ذلك، لحديث رواه كاذب فاسق فاجر، عدو الإمام علي وعدو آل محمد (ص)؟!
وأضف على ما نقله المؤرخون من أشعار صريحة في إيمان أبي طالب، خطبته الغراء البليغة التي خطبها في خطبة أم المؤمنين خديجة الكبرى لرسول الله (ص) وذكرها عامة المؤرخين.
قال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة: ج 14 / 70، ط. دار إحياء الكتب العربية: و خطبة النكاح مشهورة، خطبها أبو طالب عند نكاح محمد ص خديجة، و هي قوله: " الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم، و زرع إسماعيل، و جعل لنا بلدا حراما و بيتا محجوجا، و جعلنا الحكام على الناس ثم إن محمد بن عبد الله أخي، من لا يوازن به فتى من قريش إلا رجح عليه برا و فضلا، و حزما و عقلا، و رأيا و نبلا، و إن كان في المال قل فإنما المال ظل زائل و عارية مسترجعة، و له في خديجة بنت خويلد رغبة،و لها فيه مثل ذلك، و ما أحببتم من الصداق فعلي، و له و الله بعد نبأ شائع و خطب جليل ".
بالله عليكم أنصفوا، لو وضعت هذه الخطبة أمام أي إنسان عالم غير منحاز إلى فئة، ألا يدق بأن قائلها إنسان مؤمن عالم وحكيم سحق الماديات وتوجه إلى المعنويات. والجملة الأخيرة جديرة بالتفكر والتدبر، أ فتراه يعلم نبأه الشائع وخطبه الجليل، ولا يؤمن به؟!
ولو كانت هذه الخطبة البليغة صادرة من أي إنسان آخر، مثلا من أبي قحافة أو الخطاب، أما كنتم تستدلون بها على إيمانه؟
ونقل العلامة القندوزي في ينابيع المودة / الباب الرابع عشر / عن موفق بن أحمد ـ الخوارزمي ـ بسنده عن محمد بن كعب قال: رأى أبو طالب النبي (ص) ص يتفل في فم علي أي يدخل لعاب فمه في فم علي فقال: ما هذا يا بن أخي؟ فقال: إيمان و حكمة؟
فقال أبو طالب لعلي: يا بني! انصر ابن عمك و آزره.
أما يدل هذا الخبر على إيمان أبي طالب؟ فإنه لو لم يكن مؤمنا بالنبي، (ص) لمنعه وزجره، ولكنه أمر علي بنصرته ومؤازرته.
إسلام جعفر بأمر أبيه
وكذلك ذكر علماؤكم ومحدثوكم أن أبا طالب أمر ابنه جعفرا أن يقف بجانب النبي (ص) ويؤمن به وينصره، وذكر بعضهم أن أبا طالب دخل المسجد الحرام ومعه معه ابنه جعفر، فرأى رسول الله (ص) واقفا يصلي وعلي على يمينه يصلي معه، فقال أبو طالب لجعفر: صل جناح ابن عمك! فتقدم جعفر فوقف على يسار النبي (ص) يصلي معه، ويقلده في الركوع والسجود، فأنشد أبو طالب يقول:
إن عليا وجعفرا ثقتي | عند ملم الزمان والنــوب |
لا تخذلا و انصرا ابن عمكما | أخي لأمي من بينهم و أبي |
و الله لا أخذل النبي و لا | يخذله من بني ذو حسـب(63) |
فهل من المعقول أن رجلا يأمر ولده بمتابعة رسول الله (ص)(64) ويأمره بنصرته وعدم خذلانه، ثم هو يخالف ذاك الرسول ولا يؤمن به؟
شواهد أخرى على إيمان أبي طالب (ع)
ذكر كبار علمائكم وجميع المؤرخين من دون استثناء، أن قريشا حين وحاصروهم محاصرة اقتصادية واجتماعية، التجأ بنو هاشم بأبي طالب، فأخذهم إلى شعب له يعرف بشعب أبي طالب، قال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة: ج 14 / 65، ط. إحياء الكتب العربية: و كان سيد المحصورين في الشعب و رئيسهم و شيخهم أبو طالب بن عبد المطلب، و هو الكافل و المحامي، وقال في صفحة 64: و كان أبو طالب كثيرا ما يخاف على رسول الله (ص) البيات إذا عرف مضجعه، يقيمه ليلا من منامه و يضجع ابنه عليا مكانه.
فقال له علي ليلة: يا أبت إني مقتول؟ فقال له:
اصبرن يا بني فالصبر أحجى | كل حي مصيـــره لشعوب |
قدر الله والبلاء شديد | لفداء الحبيب وابن الحبيب |
لفداء الأعز ذي الحسب الثا | قب و الباع و الكريم النجيب |
إن تصبك المنون فالنبل تبـري | فمصيب منها و غير مصيـب |
كل وحي إن تملى بعمر | آخذ من مذاقها بنصيب |
فأجاب علي (ع)، فقال له:
أتأمرني بالصبر في نصر أحمد | ووالله ما قلت الذي قلت جازعــا |
ولكنني أحببت أن ترى نصرتي | وتعلم أني لم أزل لك طائعا |
سأسعى لوجه الله في نصر أحمد | نبي الهدى المحمود وطفلا يافعا |
بالله عليكم فكروا وأنصفوا! هل يضحي أحد بابنه إلا في سبيل العقيدة؟
هل من المعقول أن أبا طالب يقدم ابنه عليا فداءا لرسول الله (ص) وهو غيره مؤمن به وبرسالته السماوية؟!
وذكر كثير من المؤرخين والمحدثين منهم: سبط ابن الجوزي في كتاب تذكرة الخواص فقال: وقال ابن سعد... حدثني الواقدي قال: قال علي (ع): لما توفي أبو طالب. أخبرت رسول الله (ص) فبكى بكاء شديدا، ثم قال: اذهب فغسله وكفنه وواره ، غفر الله له ورحمه.
فقال له العباس: يا رسول الله إنك لترجو له؟ فقال: أي والله ! إني لأرجو له وجعل رسول الله (ص) يستغفر له أياما لا يخرج من بيته وقال علي يرثيه:
أبا طالب عصمة المستجير | و غيث المحول و نور الظلم |
لقد هد فقدك أهل الحفاظ | فصلى عليك ولي النعم |
ولقاك ربــك رضوانه | فقد كنت للمصطفـى خير عم |
فأسألكم: أما قال الله سبحانه في كتابه:
(إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ..)(65)؟.
فإذا مات أبو طالب مشركا كما تزعمون، فكيف جعل رسول الله (ص) يستغفر له أياما لا يخرج من بيته؟!
والمشهور أن طلب الرحمة والمغفرة للمشرك حرام.
ثم كلنا نعلم أن تجهيز الميت أي تغسيله وتكفينه من سنن الإسلام، فإذا لم يكن أبو طالب مسلما، فكيف يأمر النبي (ص) عليا بتغسيله وتكفينه ومواراته؟
وهل من المعقول أن عليا (ع) وهو سيد الموحدين وإمام المتقين وأمير المؤمنين، يرثي مشركا بذاك الرثاء الذي هو جدير أن يرثى به الأنبياء والأوصياء، ولاسيما وصفه: " بنور الظلم "، وأنه " صلى عليه ولي النعم " وهو الله سبحانه وتعالى، " ولقاك ربك رضوانه.. " وهل الله عز وجل يلقي رضوانه المشركين؟!
فهذه كلها دلائل ناصعة، وبراهين ساطعة في إيمان أبي طالب.
الشيخ عبد السلام: إذا كان أبو طالب مؤمنا، فلماذا لم يعلن إيمانه مثل حمزة والعباس؟
قلت: إن إعلان حمزة إيمانه وإظهار إسلامه، وكتمان أبي طالب إيمانه وإسلامه كان عن حكمة وتدبير، فقد كان حمزة رجل الضرب والحرب، جسورا في اقتحام المعارك، فلما يظهر إيمانه ويعلن إسلامه، قويت شوكة المسلمين وكانوا مستضعفين، فإسلام حمزة بعث فيهم الروح وقوى معنوياتهم وشد عزائمهم. لكن أبا طالب كان رجل الحكمة والتدبير، وكان هو آنذاك يتزعم بني هاشم، فكانوا تحت لوائه، وحتى رسول الله (ص) كان تحت كفالته وحمايته، وكانت قريش تراعي مقامه وشخصيته لأنهم يحسبونه منهم، وعلى طريقتهم وطينهم، فكانوا يتنازلون له ويواجهونه باللين، حتى أنهم كانوا يطمعون فيه أن يسلمهم محمدا (ص) فيقضوا عليه ويقتلوه(66).
ولكن يا ترى هل تنازل أبو طالب أمام قريش في شيء مما طلبوا منه في ابن أخيه، من طرده وترك نصرته و...؟!
وأما العباس بن عبد المطلب، فإنه سبق إلى الإسلام وآمن بابن أخيه محمد (ص)، ولكن بأمر النبي (ص) كتم إيمانه أيضا، فقد ذكر ابن عبد البر في الاستيعاب أن العباس أراد أن يهاجر مع رسول الله (ص) إلى المدينة، ولكن النبي (ص) أمره بالبقاء فيها وقال بقاؤك في مكة خير لي، فكان العباس يكتب إلى النبي (ص) أخبار مكة ويرسلها إليه حتى أخرجه المشركون كرها إلى بدر فكان من الأسرى ففدى نفسه وأطلق، ولما اقتضت الأمور وارتفعت الموانع، أعلن إسلامه وأظهر إيمانه يوم فتح خيبر.
وقال الشيخ القندوزي في ينابيع المودة / الباب السادس والخمسون / تحت عنوان ذكر إسلام العباس رضي الله عنه ـ وفي الباب عناوين كثيرة ـ: قال أهل العلم بالتاريخ: إن العباس أسلم قديما يكتم إسلامه، وخرج مع المشركين يوم بدر فقال النبي (ص): من لقي العباس فلا يقتله فانه خرج مكرها، وهو يكتب أخبار المشركين من أهل مكة إلى النبي (ص) وكان المسلمون يؤمنون به وكان يحب الهجرة إلى المدينة، لكن النبي (ص) كتب إليه: إن مقامك بمكة خير لك. ولما بشر أبو رافع ـ رق النبي (ص) ـ بإسلام العباس، أعتقه النبي (ص).
فيا ترى لو كان العباس يموت قبل إعلان وإظهار إيمانه، ما كان يتهم بالشرك؟
فأبو طالب كذلك آمن بالنبي الأمين (ص)، ولكن الحكمة وحسن التدبير اقتضت أن لا يظهر إيمانه، ليتمكن من محاماة النبي (ص) ونصرته.
ولذلك ذكر المؤرخون كلهم، منهم ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ج14/70 قال:
و في الحديث المشهور: أن جبرائيل (ع) قال له (ص) ليلة مات أبو طالب: " اخرج منها فقد مات ناصرك " (67).
الشيخ عبد السلام: هل اشتهر إسلام أبي طالب على عهد النبي (ص) وهل عرفه المسلمون؟
قلت: نعم اشتهر إيمان أبي طالب وإسلامه، وكل المؤمنين والمسلمين كانوا يذكرون أبا طالب بالخير ويعظمونه ويحترمونه.
الشيخ عبد السلام: كيف يمكن أن يكون أمره شائعا مشهورا في عهد رسول الله وبعد النبي (ص) بثلاثين سنة تقريبا، يكذبون على رسول الله (ص) ويضعون ويجعلون حديثا عنه، بخلاف ذلك الأمر الشائع، بحيث يخفونه على المسلمين ويغيرون الواقع والحقيقة!
قلت: ليس هذا أول قارورة كسرت في الإسلام، فإن هناك حقائق كثيرة أنكروها وحتى أحكام كانت على عهد النبي (ص) شائعة، يعمل بها المسلمون ويصدقها المؤمنون، غيرها المبتدعون وبدلها المبطلون، حتى نسيها الجيل الذي أتى بعد ذلك العهد.
الشيخ عبد السلام: إذا كان كذلك فاذكر لنا نموذجا حتى نعرف!
قلت: الشواهد لقولي كثيرة، ولكن الوقت لا يسمح أن أذكرها، وإنما أذكر نموذجا واحدا وهو حكم اتفق عليه الجمهور، ومستند إلى كتاب الله وسنة رسوله وقد عمل به المسلمون والصحابة وكان شائعا بينهم، إلا أن الخليفة الثاني حرمه ومنع المسلمين من العمل به، وهو الزواج المنقطع، والنكاح المؤقت.
فقد ذكر المحدثون والفقهاء وأصحاب التاريخ والسير: أن الزواج المؤقت كان جاريا من عهد النبي (ص) يعمل به المسلمون في عهد أبي بكر أيضا، وكذلك معمول به في شطر من خلافة عمر، ولكنه رأى بعد ذلك تحريمه، ومنع المسلمين من العمل به، فصعد المنبر وأعلن فقال: متعتان كانتا على عهد رسول الله (ص) أنا أحرمهما وأعاقب عليهما. فجاء حكم عمر ناسخا لحكم الله ورسوله إلى يومنا هذا، بحيث نرى حتى بعض أهل العلم من العامة يتهجمون على الشيعة في كتبهم ويفترون عليهم بأنهم أهل البدع والضلال ويستشهدون لصدق كلامهم، بأن الشيعة يلتزمون بالزواج المؤقت ويجيزونه ويبيحونه.
فالافتراء على أبي طالب (ع) واتهامه بالكفر، وقذفه بالشرك، وتغيير واقعه في التاريخ، وتبديل حقيقته بين كثير من الناس، أنتم وأمثالكم، لم يكن بأعجب ولا أصعب، من تغيير حكم الله وتبديل سنة رسول الله (ص)، والأمر الذي عمل به أكثر الصحابة وذكره الله في كتابه بالصراحة وإذا به ينقلب حراما بحكم عمر بن الخطاب، ويعين لفعله عقابا وعذابا صارما.
والناس يقبلون منه التغيير ويمتنعون بحكمه من حكم الله سبحانه، وحتى أنتم اليوم ملتزمون بحكم الخليفة وجعل حلال الله تعالى حراما.
الشيخ عبد السلام: أتريد أن تقول أن ألوف الملايين من المسلمين الذين جاءوا بعد عمر الفاروق كلهم عملوا على خلاف حكم الله سبحانه ورجحوا كلام الخليفة على الله وسنة رسوله (ص)؟ والحال كل أهل العالم يعملون بأننا نتمسك بسنة رسول الله (ص) ونعمل بها حتى أطلقوا علينا كلمة " أهل السنة " وأطلقوا عليكم كلمة " الرافضة " لأنكم رفضتم سنة النبي (ص)(68).
نحن أهل السنة وأنتم الرافضة
قلت: رب مشهور لا أصل له، أنتم تسمون أهل مذهبكم ـ أهل السنة ـ وتسمون شيعة آل محمد (ص) ـ الرافضة ـ وليس الأمر كما تدعي بأن أهل العالم أطلقوا كلمة ـ أهل السنة ـ عليكم وكلمة الرافضة على الشيعة. فإن الأصل على عكس التسميتين ، فإنكم إذا فتحتم أعينكم وأبصرتم الحقائق بقلوبكم وعقولكم لعرفتم أن الشيعة هم في الحقيقة أتباع القرآن الكريم وسنة سيد المرسلين، وغيرهم هم الذين رفضوا العمل بالقرآن والتمسك بالسنة الشريفة.
الشيخ عبد السلام: قال ـ مستهزئا ـ: أحسنت إذ سميت ألوف الملايين من المسلمين المتمسكين بكتاب الله وسنة رسوله (ص) روافض. ليت شعري ما هو دليلك على هذا الادعاء؟!
قلت: أراك تأثرت من كلامي وقولي: بأننا نحن أهل السنة وأنتم الرافضة، وأنتم منذ مئات السنين تدعون هذا الأمر وتسمون ألوف الملايين من شيعة آل محمد وأهل بيته الطاهرين طول التاريخ بالرافضة، بل ترمونهم بالكفر والضلال، بغير دليل ولا برهان، بل ادعاء وافتراء واضح البطلان.
ولكني كما أثبت في طول مناقشاتي في الليالي الماضية أني لا أتكلم بغير دليل ولا أستند في حديثي بالأقاويل والأباطيل، فكذلك هذه الليلة.
وأما دليلي على أننا أتباع القرآن الحكيم وسنة سيد المرسلين فهو حديث رسول الله (ص) الذي أثبتناه في الليالي الماضية وذكرنا مصادره من كتبكم المعتبرة، وهو قوله (ص): إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا. وأنتم أعرضتم عن أهل البيت وتمسكتم بغيرهم بل تمسكتم أحيانا بأعدائهم ومخالفيهم، وتركتم حكم الله الذي عمل به أصحاب رسول الله (ص) في حياته، وتمسكتم بحكم عمر الذي غير حكم الله وحرم حلاله، وكذلك ابو بكر خالف حكم الله سبحانه في عدم إعطاء خمس الغنائم لأهل البيت (ع) في صريح قوله تعالى : (وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى)(69) وكان رسول الله (ص) في حياته يعمل بهذه الآية الشريفة، وقد أثبتنا ذلك في الليالي الماضية ونقلنا لكم أقوال أعلامكم بأن أبا بكر غير حكم الخمس وتبعه وأما عمر، وأما عثمان فقد خصه لقرباه عوض قربى النبي (ص) فأعطى الخمس لمروان وأبيه وأخيه وغيرهم من بني أمية الذين طردهم رسول الله (ص) ولعنهم. وأنتم أيضا إلى اليوم تتبعون سنة أبي بكر وهي على خلاف سيرة رسول الله (ص) وسنته الشريفة.
هل اكتفيتم أم أزيدكم؟!
الشيخ عبد السلام: ما هو دليلكم من كتاب عز وجل على تشريع الزواج المؤقت، هل عندكم دليل صريح من القرآن الحكيم؟
دليلنا فتشريع الزواج المؤقت
قلت: نعم دليلنا من القرآن الكريم في تشريع الزواج المؤقت الآية الكريمة التي تصرّح وتقول: (فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة)(70).
هذا هو صريح حكم الله جل وعلا وما نُسخ بآية أخرى، فيكون الحكم باقياً إلى آخر الدنيا، فإنّ حلال محمد صلى الله عليه وآله وسلم حلالٌ إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة.
الشيخ عبد السلام: كيف عرفتم أنّ هذه الآية تشير إلى الزواج المؤقت!
فإن الإستمتاع يحصل في الزواج الدائم وإيتاء الأجور هو المهر واجب فيه وفرض أيضاً؟ قلت: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: من فسّر القرآن برأيه فليتبوء مقعده من النار. فلا بد في مثل هذه القضايا المشتبهة أن نراجع كتب التفسير، وأنّ مفسّريكم مثل الطبري في تفسيره ج5 والفخر الرازي في تفسيره ج 3 وغيرهما ذكروا في تفسير الآية الزواج المؤقّت وقالوا بأنّ الآية نزلت في تشريع الزواج المؤقت.
إضافةً على بيان مفسريكم في تفسير الآية الكريمة فإنكم تعلمون أنّ الله عزّ وجل في سورة النساء قد بيّن أنواع النكاح المشروع في الإسلام فقال: (فأنكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع، فإن خفتم ألاّ تعدلوا فواحدةً أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألاّ تعدلوا * وأتوا النساء صدقاتهن نحلة...)(71).
وقال سبحانه في الآية 24: (وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة...) في هذه الآية صرّح بتشريع الاستمتاع من النساء مقابل أجر فرض بينهما، والإستمتاع هو زواج المتعة أو المؤقت.
وشرّع نوعاً ثالثاً في النكاح وهو ملك اليمين، فقال عزّ وجل: (ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن مّا ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات...)(72).
فإذا كانت آية الاستمتاع أيضاً تتضمن الزواج والنكاح الدائم فيكون ذكر هذا الموضوع في سورة واحدة مكرراً، وهذا إلى اللغو أقرب، وحاشا كلام الله العزيز من اللغو، والله جل جلاله حكيم واللغو لا يصدر من الحكيم.
ثم أننا نجد الكلمات والتعابير في الآيتين مختلفة، ففي الآية الأولى يقول سبحانه: (فأنكحوا ما طاب لكم من النساء..... وآتوا النساء صدقاتهن ) وفي الآية الثانية يقول تعالى: (فما استمتعتم به منهنّ فآتوهن أجورهن). فبدّل النكاح بالاستمتاع والصداق بالأجور. كما أن المؤرّخين قد ذكروا أنّ المسلمين على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانوا يتزوجون بزواج المتعة وهو الزواج المؤقت. فإذا كانت آية المتعة – على حدّ زعمكم – تشير إلى الزواج الدائم لا المؤقت ، فما هي الآية التي عرف المسلمون منها وفهموا الزواج المؤقت؟ وعلى استناد أيّة آية من كلام الله العزيز شرّع لهم الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم زواج المتعة؟
روايات المتعة عن طريق أهل السنة
أمّا الروايات الواردة والأخبار المروية في المتعة والزواج المؤقت في كتبكم المعتبرة، من علمائكم وأعلام أمتكم، فكثيرة لا يمكن رفضها ونقضها لأنّ بعضها جاءت في الصحاح، فقد روى البخاري في صحيحه كتاب التفسير باب فمن تمتع بالعمرة إلى الحج وأحمد في المسند ج 4 ص 429 عن أبي رجاء عن عمران بن الحصين أنّه قال: نزلت آية المتعة في كتاب الله ففعلناها على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم ينزل قرآن بحرمتها ولم ينه عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى مات، قال رجل برأيه ما يشاء.
وروى مسلم في صحيحه ج 1 ص 535 باب نكاح المتعة عن عطاء قال: قدم جابر بن عبد الله معتمراً فجئناه في منزله، فسأله القوم عن أشياء ثم ذكروا المتعة فقال: استمتعنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلى عهد أبي بكر وعمر(73).
وروى مسلم في نفس الجزء 467 في نفس الباب وفي كتاب الحج / باب التقصير/ في العمرة / مسنداً عن أبي نضرة قال: كنت عند جابر بن عبد الله إذْ أتاه آت فقال: إنّ ابن عبّاس وابن الزبير اختلفا في المتعتين، فقال جابر: فعلناهما مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم نهانا عنهما عمر. ورواه أحمد في المسند ج 1 ص 25 بطريق آخر باختلاف يسير في اللفظ(74).
وروى مسلم في صحيحه نفس الجزء / باب نكاح المتعة/ بسنده عن أبي الزبير قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: كنّا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيام على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر، حتى نهى عمر عنه في شأن عمرو بن حريث(75).
وفي صحاحكم ومسانيدكم توجد أخبار وروايات كثيرة جداً في هذا الباب لا مجال لذكرها، وكلها تكشف عن عمل الصحابة بالمتعة على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وأوائل عهد عمر ثم نهاهم عمر عنها وتوعّد من يستمتع بالرجم(76).
إضافة على ما نقلت لكم، فإن مفسريكم قد نقلوا روايات حاصلها أنّ جماعة من الصحابة منهم أبي بن كعب وابن عباس وعبد الله بن مسعود وسعيد بن جبير والسّدي وغيرهم كانوا يقرؤون الآية هكذا: فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى.
رواها جار الله الزمخشري في الكشاف عن ابن عباس ومحمد بن جرير الطبري في تفسيره، والفخر الرازي في تفسيره مفاتيح الغيب، والثعلبي في تفسيره، ونقل العلامة النووي في شرح صحيح مسلم في باب نكاح المتعة عن القاضي عياض عن المازري أنه روى عن عبد الله بن مسعود: فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمّى.
ويروي الفخر الرازي عن أبي بن كعب وعن ابن عباس مثله ثم قال: والأمة ما أنكروا عليهما في هذه القراءة فكان ذلك إجماعاً على صحة ما ذكرنا.
ويقول بعده بورقة: فإنّ تلك القراءة لا تدلّ إلاّ على أنّ المتعة كانت مشروعة، ونحن لا ننازع فيه.