الشيخ عبد السلام: نعم نتّفق معكم على أنّ المتعة كانت في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وربّما نسخها، فما دليلكم على عدم نسخها؟
قلت: أولا.. كلامكم في النسخ إدّعاء محض، ولا بد للمدّعي من إقامة الدليل لإثبات إدّعائه، فنحن نطالبكم بالدليل.
ولكن مماشاة لكم وتلبية لطلبكم أقول: دليلنا على عدم نسخها في زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الروايات التي ذكرناها ولا سيّما قول عمر: متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنا أحرّمهما وأعاقب عليهما، في بعضها: وأنا أنهى عنهما..
كما أن عمل الأصحاب وسيرتهم في خلافة أبي بكر على ذلك أيضاً.(77)
الشيخ عبد السلام: ولكن نستفيد من القرآن نسخ المتعة إذ يقول سبحانه: (إلاّ على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنّهم غير ملومين)(78).
فقد ذكر سبحانه في هذه الآية الكريمة سببين للحليّة وهما الزوجية وملك اليمين ونسخ المتعة لأنّها ليست تزويجاً، فلا إرث بينهما ولا نفقة ولا طلاق ولا عدّة وهذه كلها من لوازم الزوجيّة.
حكم المتعة غير منسوخ في القرآن
قلت: لا تدل هذه الآية على نسخ حكم المتعة، بل هي في حدّ الزوجية ثم هذه الآية في سورة المؤمنون وهي مكيّة، وتشريع المتعة في سورة النساء وهي مدنية، فكيف الناسخ نزل قبل المنسوخ؟!
وأما قولك: بأن المتعة ليس فيها لوازم الزوجية من الإرث والنفقة والطلاق والعدة.
فأقول: كلامك يدل على عدم اطلاعك لفقهنا وعدك مطالعتك لكتب علمائنا، فإنهم أثبتوا أنّ جميع آثار الزوجية تترتب على المتعة إلاّ ما خرج بالدليل، ولا يخفى أنّ الله سبحانه أسقط بعض شروط الزوجية ولوازمها لغرض التسهيل والتخفيف في هذا النوع من النكاح والتزويج.
ثم اعلم.. أن الإرث والنفقة ليسا من اللوازم الثابتة للزوجيّة فقد أفتى فقهاء الإسلام من الشيعة والسنة: أن الزوجة الكتابية والناشزة والتي قتلت زوجها لا ترث منه ولا تستحق النفقة. مع العلم أنّ الزوجية باقية، إذ لا يجوز لها أن تتزوّج برجل آخر، وتجب عليها عدة الوفاة ـ أربعة أشهر وعشرة أيام ـ إذا توفيّ الزّوج.
وأما الطلاق في المتعة، فإن حكم الطلاق بانقضاء الأجل المسمّى والمدّة المعينة، أو بأن يهب الرجل ما تبقّى من المدة ويتنازل عن حقّه، ويجب عليها العدة وأقلّها خمسة وأربعين يوماً، والمشهور أن ترى المرأة طهرين، أمّا إذا مات الرجل قبل انقضاء الأجل المسمّى وقبل أن يهبها ما تبقى من المدّة فيجب على المرأة أن تعتد عدة الوفاة ـ أربعة أشهر وعشرة أيام ـ وهي عدة المتوفّى عنها زوجها.
الشيخ عبد السلام: لقد روى بعض علمائنا روايات تصرّح بأنّ النبي (ص) نسخ حكم المتعة، فبعضها تشير بأنّ النبي (ص) نسخها عندما فتح خيبر، وبعضها تقول نسخها يوم فتح مكة، وبعضها تقول في حجة الوداع وبعضها في تبوك وبعضها في عمرة القضاء.
قلت: أولا: هذا الاختلاف الفاحش دليل قوي على وضع تلك الأخبار وكذبها، ومن الواضح أنّ غرض الواضعين والجاعلين تبرئة عمر وتنزيهه.
ثانيا: لو قايسنا هذه الأخبار مع الروايات التي نقلناها من صحاحكم ومسانيدكم ومصادر أعلامكم وجدناها واهية ضعيفة لا تعدّ شيئاً.
ثالثا: كلام عمر كما نقلناه من كتبكم المعتبرة: متعتان كانتا على عهد رسول الله (ص) وأنا أحرّمهما، وما قال: كانتا ونسختا بل قال: أنا أحرمهما.. فلو كانت آية ناسخة لاستند بها ولو كان حديث ناسخ من النبي (ص) لاستدل به. ولكنه أسند التحريم إلى نفسه.
ونحن نجد في مصادركم وصحاحكم روايات صريحة بعدم نسخ المتعة وقد نقلنا بعضها لكم، فإنّ في القائلين بعدم النسخ نجد بعض الصحابة الكبار مثل عبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وجابر بن عبد الله وأبي ذر وعمران بن حصين وغيرهم. وتبعهم كبار علمائكم وقالوا بعدم نسخ حكم المتعة منهم جار الله الزمخشري في الكشّاف فإنّه بعدما ينقل رواية ابن عباس يقول: آية المتعة من محكمات القرآن وما نسخت.
ومنهم مالك بن أنس فإنّه أفتى بجواز المتعة وعدم نسخها، كما نقل عنه سعد الدين التفتازاني في كتابه شرح المقاصد، والعلامة برهان الدين الحنفي في كتابه الهداية، وابن حجر العسقلاني في فتح الباري وغيرهم نقلوا أنه قال في موضع من كتابه: هو جائز لأنّه كان مباحاً مشروعاً واشتهر عن ابن عباس حليّتها وتبعه على ذلك أكثر أهل اليمن وأهل مكة من أصحابه، وقال في موضع آخر: هو جائز لأنّه كان مباحاً فيبقى إلى أن يظهر ناسخه. فنعرف من كلام مالك بأنّه إلى زمانه عام 179 من الهجرة ما كانت روايات النسخ، وإنّما وضعها الكاذبون الجاعلون بعد هذا الزمن وهي من وضع وجعل المتأخرين. والّذين قالوا بتحريم المتعة استندوا على كلام عمر وما استدلّوا بغير قوله: وأنا أحرّمهما وأعاقب عليهما، وهو دليل باطل لأنّه ليس من حق عمر التشريع فإن فإنّ الشارع هو الله العزيز الحكيم، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم مبيّن لأمّته ما أوحي إليه من ربّه، من أحكام الدين والشريعة.
الشيخ عبد السلام: نعم ليس من حق عمر (رض) ولا من حق غيره التشريع... ولكن قول عمر الفاروق سندٌ قوي ودليل محكم لنا في كشف الحق، فإنّه لا يحكم بشيء إلاّ على استناد ما سمعه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم والعتب على المسلمين الحاضرين في مجلس الخليفة (رض) إذْ لم يسألوه عن دليل التحريم وإنّما قبلوا منه بغير اعتراض لما يعرفون فيه من الصدق والصلاح، فلذلك صار قوله لنا دليلاً محكماً وسنداً مقبولاً.
قلت: هذه كلها مغالطات وتوجيهات، وقد قيل حبّ الشيء يُعمي ويُصم، وأنتم من فرط حبكم لعمر تسعون في توجيه أعماله المخالفة لصميم الإسلام ونصّ القرآن، وتفسرون كلامه على خلاف ظاهره، لأنّه يصرّح: أنا أحرّمهما وأعاقب عليهما . وأنتم تقولون: بأنّه لا يحكم بشيء إلاّ على استناد ما سمعه من النبي؛ وتلقون العتب على المسلمين الحاضرين في مجلسه إذْ لم يسألوه عن دليل التحريم، والرجل ليس له دليل إلاّ أنّ رأيه قد قطع بذلك. وأما قولك: بأن الحاضرين قبلوا منه بغير اعتراض فهو مخالف لما رواه أعلامكم بأنّ إبنه عبد الله كان يُفتي على خلاف رأي أبيه وكذلك جمعٌ من الصحابة والتابعين كما ذكرنا لكم. وأما قولك: بأن قول عمر دليلٌ محكم وسند مقبول لديكم، ليت شعري بأيّ نصّ شرعي من الكتاب أو السنة أصبح قول عمر دليلاً محكماً وسنداً مقبولاً؟! هذا الذي ليس فيه نص من الكتاب أو السنة، تجعلوه لأنفسكم حجّة وتلتزمون به وتتمسكون به أشد التزام وتمسك، وتعرضون عن الخبر الذي وصل حد التواتر وهو حديث الثقلين فلا تعملون بقول العترة ولا تتمسكون بهم، علماً أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد قال: (ما إن تمسكتم بهما – أي القرآن والعترة – لن تضلوا بعدي أبداً) فقد جعلهما صلى الله عليه وآله وسلم أماناً من التيه والضلال.
هل يجوز للمجتهد أن يخالف النص؟
الشيخ عبد السلام: إنكم تعلمون أنّ جماعة من علمائنا المحققين قالوا: أن النبيّ كان يضع الأحكام باجتهاد رأيه، فلذلك يجوز لمجتهد آخر أن ينقض حكمه إذا توصّل رأيه إلى خلاف قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولذلك نقضه عمر وقال: أنا أحرّمهما.
قلت: ما كنت أتوقع منك هذا الكلام يا شيخ عبد السلام! فإنك لتصحيح غلطة ارتكبت غلطات، بالله عليكم هل يصح الاجتهاد مقابل النصّ؟ وهل يجوز لإنسان أن يخالف القرآن ويخالف حكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بزعم الاجتهاد؟ أما يكون كلام الشيخ غلواً في حق عمر وإجحافاً في حق النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؟ إذْ يساوي رأي عمر برأي النبي صلى الله عليه وآله وسلم بل يرجّحه على رأي النبي صلى الله عليه وآله وسلم! وكلام الشيخ خلافٌ صريحٌ لصريح القرآن الحكيم لقوله تعالى:
(قل ما يكون لي أن أبدّله من تلقاء نفسي إن أتّبع إلاّ ما يوحى إليّ)(79).
فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يجوز له أن يبدل حكماً من الأحكام، فكيف تجيزون لعمر؟! وعلى فرض اجتهاده فلا يجوز لمجتهد أنْ يخالف النصّ المسلّم(80).
والقائلون بأنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يضع الأحكام باجتهاده وبرأيه كلامهم باطل وليس على أساس عقلي وعلمي بل هو مخالف لصريح القرآن الحكيم أيضاً لقوله تعالى:
(وما ينطق عن الهوى إنْ هو إلاّ وحي يوحى)(81).
وقوله تعالى: (قل ما كنت بدعاً من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتّبع إلاّ ما يوحى إليّ)(82).
وكلامكم يخالف صريح كلام الله العزيز.
الشيخ عبد السلام: لا شك أنّ الخليفة (رض) حكم بصلاح المسلمين وحرّم المتعة لأنّه كما جاء في كتاب الإصابة للعسقلاني ج 3 القسم 1 / 114 عن عمر بن شبّة قال: واستمتع سلمة بن أميّة من سلمى مولاة حكيم بن أميّة بن الأوقص الأسلمي، فولدت له فجحد ولدها، فبلغ ذلك عمر فنهى عن المتعة.
فحرّم عمر (رض) المتعة حتى لا يشيع هذا الأمر ولا يتكرر، وكلنا نعلم أن الأولاد الذين جحدهم آبائهم ينكرهم المجتمع أيضاً، فيسببوا فساداً كبيراً، من أجل ذلك ولكي لا يكثر الفساد، نهى عمر عن المتعة.
قلت: ولكن هذا حاصل حتى في النكاح الدائم أيضاً فكم من رجل جحد ولده وأنكر ما ولدته زوجته فهلاّ نهى عمر عن النكاح الدائم أيضاً؟! أفهل تكليف الخليفة ومسؤوليته في قبال عمل سلمة بن أميّة وإنكاره ولده أن يحرّم حلال الله ويغيّر حكمه ويبدّل دينه؟! أم كان المفروض أن يعظ سلمة ويأمره بالمعروف والنهي عن المنكر وأن يقابله بالحكمة والموعظة الحسنة فيوقظ وجدانه ويقوّي إيمانه فيشعره بالمسؤوليّة ثم يحكم بإلحاق الولد بسلمة بن أميّة لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (الولد للفراش) وما كان لسلمة أن ينكر العقد لأنّه كما نقرأ في الكتب أنهم كانوا يشهدون العدول على العقد في المتعة فقد روى في كنز العمال: ج 8 ص 294 عن سليمان بن يسار عن أم عبد الله ابنة أبي خثيمة: أنّ رجلاً قدم من الشام فنزل عليها ، فقال: إنّ العزوبة قد اشتدّت عليّ فابغيني امرأة أتمتع معها. قالت: فدللته على امرأة فشارطها وأشهدوا على ذلك عدولاً، فمكث معها ما شاء الله أن يمكث ثم إنه خرج ، فأخبر بذلك عمر بن الخطاب فأرسل إليّ فسألني: أحق ما حدّثت؟ قلت: نعم. قال: فإذا قدم فآذنيني به. فلما قدم أخبرته فأرسل إليه فقال: ما حملك على الذي فعلته؟ قال: فعلته مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم لم ينهنا عنه حتى قبضه الله، ثم مع أبي بكر فلم ينه عنه حتى قبضه الله ثم معك فلم تحدث لنا فيه نهياً. فقال عمر : أما والذي نفسي بيده: لو كنت تقدّمت في نهي لرجمتك، بينوا حتى يعرف النكاح من السفاح. وأخرجه ابن جرير أيضاً. وأما قولك: إن الخليفة حكم بصلاح المسلمين، فإن الله ورسوله أعرف بصلاح الخلائق، والخالق أعلم بمصالح مخلوقه ولا شك أنّ الله سبحانه وتعالى شرّع المتعة والنبي صلى الله عليه وآله وسلم سنّها لحكمة حكيمة ومصلحة عظيمة للمؤمنين ولكن عمر نقضها. وقد جاء في الخبر كما في شرح معاني الآثار للطحاوي / كتاب النكاح / باب نكاح المتعة / روى بسنده عن عطاء عن ابن عباس قال: ما كانت المتعة إلاّ رحمة رحم الله بها هذه الأمة، ولولا نهي عمر بن الخطاب عنها ما زنى إلاّ شقي. وروى الثعلبي والطبري في تفسيريهما وأحمد في المسند في تفسير آية المتعة عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام قال: لولا أن عمر نهى عن المتعة ما زنى إلاّ شقي. فتحريم عمر للزواج المؤقت لم يقلل الفساد وإنّ أثر نهيه المتعة كان بعكس ما تقولون، وبخلاف ما تزعمون.
ولنترك هذا البحث الذي جاء استطرادا، لأن البحث كان حول إيمان أبي طالب (ع) فقلنا: إنه كان مؤمنا ومات مؤمنا إلا أن أعداء الإمام علي (ع) أرادوا تنقيصه والحط من كرامته وشخصيته، فوصموا أباه ـ شيخ بني هاشم وكافل النبي وحاميه (ص) ـ بوصمة الكفر والشرك، وأشاعوه بعد النبي (ص) بوضع حديث افتروه على رسول الله (ص) وهو حديث الضحضاح. فخبر عدم إيمان أبي طالب (ع) إن هو إلا من أكاذيب بني أمية وأباطيلهم، وشيوع الخبر جاء بتبليغ منهم بحيث غطى على خبر إيمانه، فقلبوا الحقيقة وغيروا الواقع حتى التبس الحق على المسلمين.فلما وصل حديثنا إلى هذا المكان، استبعد الشيخ عبدالسلام ذلك، وقال: لا يمكن لأحد أن يقلب الحقيقة ويغير الواقع الذي كان شائعا في عهد النبي (ص) فيبد له بحيث يلتبس الأمر على المسلمين، فينكروا الحقيقة ويقولوا بغير الواقع.
فقلنا: إن هذا ليس بأول قارورة كسرت في الإسلام.
فطلب مثالا ليكون مصداقا آخر وشاهد على كلامنا، فمثلنا بتحريم عمر متعة الحج ومتعة النساء، فصرح قائلا: متعتان كانت على عهد رسول الله وأنا أحرمهما وأعاقب عليهما. والشاهد تمسكهم بقول عمر وتركهم سنة النبي (ص)، فثبت بأن الحكومة والقوة تلعب دورا هاما في إخفاء الواقع ونشر الأكاذيب ولبس الحق، وإشاعة الباطل باسم الحق، ولا يخفى في هذه الأمور دور الدعايات والأحاديث الزائفة المجعولة بواسطة رجال ممن عرفوا بصحبة رسول الله (ص)، ولما يدخل الإيمان في قلوبهم فلا أطيل الكلام في الموضوع أكثر من هذا، ومن أراد من الحاضرين أن يتعمق أكثر ويحقق الموضوع ويبحث فيه أكثر مما قلنا فليراجع الكتب المعتبرة عند العامة من أعلامهم، مثل السيوطي، وأبي القاسم البلخي، ومحمد بن إسحاق، وابن سعد الكاتب، وابن قتيبة، والواقدي، والشوكاني والتلمساني، والقرطبي، والبرزنجي والشعراني، والسبحمي، وأبي جعفر الاسكافي، وغيرهم من علماء العامة الذين اعترفوا في كتبهم بإيمان أبي طالب (ع). وقد كتب بعضهم رسالة مستقلة في الموضوع.
الكعبة مولد الإمام علي عليه السلام
وأما الفضيلة الأخرى التي امتاز بها الإمام علي (ع) وتعد من فضائله الخاصة به، إذ لم يحدث مثله لأحد قبله ولا بعده، ألا وهو مولده في وسط بيت الله الحرام في الكعبة المشرفة، وقد حدث ذلك بإرادة الله سبحانه وبدعوة منه لفاطمة بنت أسد والدة أمير المؤمنين (ع) إذ انشق لها ركن البيت لما استجارت به تطلب من الله تعالى أن يسهل عليها الولادة، فدخلت في الكعبة وعاد الركن فالتأم والتصق. إنما حدث ذلك لكي لا يقول أحد أن ولادة علي بن أبي طالب داخل الكعبة كانت عند صدفة وليس فيها كرامة له (ع).
وكما في بعض الأخبار المروية أن فاطمة بنت أسد بقيت في الكعبة ثلاثة أيام ضيفة على ربها، فصار الناس يتحدثون في المجالس والنوادي عن هذا الحادث الخارق والأمر الغريب، وفي اليوم الثالث عند اجتماع الناس وتزاحمهم في المسجد الحرام، وإذا بالركن ينشق ثانيا، وتخرج فاطمة بنت أسد وعلى يديها ولدها الكريم علي (ع)، ويعد علماء الإسلام شيعة وسنة هذه الفضيلة من خصائص أمير المؤمنين، وقد قال الحاكم في المستدرك، والعلاباغ المالكي في الفصول المهمة / الفصل الأول ص 14:
ولم يولد في البيت الحرام قبله أحد سواه وهي فضيلة خصه الله تعالى بها إجلالا له وإعلاء لمرتبته وإظهار لتكريمه(83).
اسم " علي " عليه السلام نزل من عند الله تعالى
والفضيلة الأخرى التي امتاز بها الإمام علي (ع) على سائر الصحابة إن اسمه الشريف جاء له من عند الله تبارك وتعالى من عالم الغيب.
الشيخ عبد السلام: إن هذا الكلام غريب جدا، أ فهل كان أبو طالب نبيا يوحى إليه، حتى نقول بأن اسم ابنه نزل أو جاء من عند الله؟! إن هذا إلا أقاويل الشيعة يختلقونها من فرط حبهم لسيدنا علي كرم الله وجهه، وليس لهذا الاسم ربط بعالم الغيب، بل اختاره أبو طالب لولده.
قلت: ليس كلامي بغريب، وإنما استغربته لأنك لا تعتق بولاية الإمام علي (ع). فإنك تظن أن هذا الاسم جعل على الإمام علي (ع) حين ولادته، وليس كذلك، فإن الله تعالى قد ذكر في جميع الكتب السماوية اسمي محمد وعلي عليهما الصلاة والسلام بصفة النبوة والإمامة، وإن هذين الاسمين المباركين كتبهما الله عز وجل وجعلهما على السماوات والأرضين وعلى أبواب الجنة وعلى العرش العظيم، قبل أن يخلق آدم أبا البشر بآلاف السنين، فلا يختص بزمن أبي طالب (ع).
الشيخ عبد السلام: أليس هذا الكلام غلوا في حق علي كرم الله وجهه؟ فقد قارنتموه بسيد المرسلين (ص) وذكرتم اسمه مع اسم النبي (ص) مكتوبا في عالم الملكوت وحتى على العرش العظيم. نعم اسم رسول اله (ص) كوجوده ونفسه فوق كل شيء وليس له قرين، ولكنكم بالتمسك بخبر ضعيف، غير معتبر تحتجون علينا ، بل وتجعلوه سندا مقبولا ودليلا معقولا لفتة فقهائكم فيفتون بوجوب ذكر علي بعد اسم النبي (ص) في الأذان.
فتبسمت ضاحكا من قوله، وقلت: لا يا أخي إنني غير مغال حق أمير المؤمنين وسيد الوصيين وقائد الغر المحجلين، ابن عم الرسول وزوج البتول وسيف الله المسلول وأسد الله الغالب مظهر العجائب والغرائب وصاحب الفضائل والمناقب الإمام علي بن أبي طالب صلوات الله وسلامه عليه.
نحن ما قارنا اسمه مع اسم رسول الله (ص)، ولا نحن سجلنا اسمه مع اسم النبي (ص) في السماوات والعرش العظيم، بل الله عز وجل هو قارن اسم وليه علي بن أبي طالب مع اسمه واسم نبيه (ص) وكتب اسمه مقارنا لاسمه العزيز واسم حبيبه على أبواب الجنان كما ورد في روايات أعلامكم وعلمائكم بإسنادهم لا بأسانيد ضعيفة زعمت، وقد أثبتوا تلك الروايات ونقلوها في مصادركم المعتبرة لدى كبار علمائكم وأعلام محدثيكم الذين لو ضعفتهم فقد ضعفت مذهبك، فليس ولا لأي واحد منكم الخضوع لمقامهم والتسليم لآرائهم وقبول ما رووا في مسانيدهم وتصانيفهم.
الشيخ عبد السلام: لو تتفضل بذكر بعض تلك الروايات التي نقلها كبار علمائنا وأعلام محدثينا.
قلت: روى الطبري في تفسيره وابن عساكر في تاريخه في ترجمة الإمام علي (ع)، وروى العلامة الكنجي القرشي الشافعي في كفاية الطالب / باب 62، والحافظ أبو نعيم في حلية الأولياء، والعلامة القندوزي في الينابيع / باب 56 حديث 52 نقلا من ذخائر العقبى لمحب الدين الطبري، رووا بأسانيدهم على أبي هريرة ـ مع اختلاف يسير في الألفاظ واتحاد المعنى ـ عن رسول الله (ص) قال: مكتوب على ساق العرش لا إله إلا الله وحده لا شريك له ومحمد عبدي ورسولي أيدته بعلي بن أبي طالب.
وروى جلال الدين السيوطي في الخصائص الكبرى: ج1/10، وفي الدر المنثور في أوائل سورة الإسراء، نقلا عن ابن عساكر وابن عدي انهما رويا عن أنس بن مالك عن النبي (ص) قال: ليلة أسري بي إلى السماء رأيت مكتوبا على ساق العرش: لا إله إلا الله محمد رسول الله (ص)، أيدته بعلي.
وروى القندوزي في الينابيع باب / 56، نقلا عن ذخائر العقبى للطبري عن أبي الحمراء عن النبي (ص) قال: ليلة أسري بي على السماء، نظرت إلى الساق الأيمن من العرش فرأيت مكتوبا محمد رسول الله، أيدته بعلي ونصرته به، وقال : أخرجه الملا في سيرته.
وروى القندوزي أيضا في الباب نقلا عن ذخائر العقبى للطبري عن أبي الحمراء عن النبي (ص) قال: ليلة أسري بي إلى السماء، نظرت إلى الساق الأيمن من العرش فرأيت مكتوبا محمد رسول الله، أيدته بعلي ونصرته به، وقال: أخرجه الملا في سيرته.
وروى القندوزي أيضا في الباب نقلا عن كتاب " المناقب السبعون " الحديث التاسع عشر / عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: قال رسول الله (ص): مكتوب على باب الجنة قبل أن يخلق الله السماوات والأرض بألفي عام، محمد رسول الله، وعلي أخوه، قال رواه ابن المغازلي.
أقول: رواه أحمد في المناقب، والعلامة الهمداني في كتابه مودة القربى / المودة السادسة، والخطيب الخوارزمي في المناقب، وابن شيرويه في الفردوس ، كلهم عن جابر بن عبد الله الأنصاري، كما مر وتذكرت حديثا جميلا مناسبا لموضوع الحوار، أخرجه العلامة الهمداني الشافعي في مودة القربى / المودة الثامنة / عن علي (ع) انه قال له النبي (ص): إني رأيت اسمك مقرونا باسمي في أربعة مواطن:
1ـ فلما بلغت بيت المقدس في معراجي إلى السماء وجدت على صخرة بها لا إله إلا الله محمد رسول الله أيدته بعلي وزيره.
2ـ ولما انتهيت إلى سدرة المنتهى وجدت عليها إني أنا الله لا إله إلا أنا وحدي، محمد صفوتي من خلقي أيدته بعلي وزيره و نصرته به.
3ـ ولما انتهيت إلى عرش رب العالمين فوجدت مكتوبا على قوائمه إني أنا لا إله إلا الله أنا محمد حبيبي من خلقي أيدته بعلي وزيره و نصرته به.
وروى الثعلبي في تفسيره ـ كشف البيان ـ والطبري في تفسيره في تفسير الآية 62 من سورة الأنفال: (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَ بِالْمُؤْمِنِينَ) عن أبي هريرة وعن ابن عباس أنها نزلت في علي. ثم رووا عن النبي (ص): رأيت مكتوبا على العرش: لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، محمد عبدي ورسولي أيدته ونصرته بعلي بن أبي طالب.
أخرجه القندوزي أيضا في الينابيع الباب الثالث والعشرون عن أبي نعيم الحافظ عن أبي هريرة، وابن عساكر في تاريخه عن ابن عباس حبر الأمة، قال القندوزي: وروى عن أنس بن مالك نحوه، ثم نقل عن كتاب الشفاء: روى ابن قانع القاضي عن أبي الحمراء قال: قال رسول الله (ص): لما أسري بي إلى السماء إذا على العرش مكتوب: لا إله إلا الله محمد رسول الله أيدته بعلي.
وروى المغازلي الفقيه الشافعي في كتابه المناقب / حديث رقم 89 بسنده عن ابن عباس قال: سئل النبي (ص) عن الكلمات التي تلقاها آدم من ربه فتاب عليه. قال: سأله بحق محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين إلا تبت علي، فتاب عليه(84).
وأخرجه عنه القندوزي في الينابيع / الباب الرابع والعشرون.
أكتفي بهذا المقدار من الروايات والأخبار وأظن أن الشيخ استوفى جوابه: بأن الله تعالى قرن اسم وليه علي بن أبي طالب باسمه واسم حبيبه ونبيه، لا نحن، والخبر ليس بضعيف ولا عن طريق واحد بل وصل إلينا من طرق شتى، ونقله علماء المسلمين من السنة والشيعة.
وأما كلامك يا شيخ: بأنه هل كان أبو طالب نبيا يوحي إليه؟
فأقول: الوحي لا يلازم النبوة، فقد أوحى الله تعالى إلى أم موسى وما كانت في مقام النبوة، والله سبحانه يصرح في ذلك بقوله عز وجل:
(وَ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَ لا تَخافِي وَ لا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَ جاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ)(85).
وربما أوحى الله تعالى إلى غير الإنسان كما في قوله سبحانه:
(وَ أَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَ مِنَ الشَّجَرِ وَ مِمَّا يَعْرِشُونَ)(86).
ومما لا شك فيه أن الوحي له مراتب فالمرتبة الأعلى والأقوى منها تحصل للأنبياء، والأدنى منها تحصل لغير الأنبياء بإرادة الله القادر المنان.
كما نستفيد من كلام الله تعالى، أن أوامره إلى عباده وهدايتهم لمقاصده، لا تنحصر بطريق الوحي، فإنه قادر أن يبلغها لمن يريد بأي طريق شاء، ولو بخلق النداء والصوت، كما حدث ذلك لمريم ابنة عمران، فقد قال سبحانه: (فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا * وَ هُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا * فَكُلِي وَ اشْرَبِي وَ قَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا)(87).
فكما إن الله عز وجل بلغ مراده إلى أم موسى بالوحي، وإلى أم عيسى بالنداء، فقد بلغ أبا طالب أيضا بأنه انتخب اسم علي واشتقه من اسمه الأعلى لوليد الكعبة، فسماه عليا.
ولا نقول بأن الوحي الذي كان ينزل على رسول الله (ص) نزل على أبي طالب ولا نعتقد نبوته، وإنما نقول بأن الله تعالى نبه أبا طالب وبلغه إما بالنداء أو بمشاهدته لوحا مكتوبا أن يسمي ولده بالاسم المشتق من اسم الله العلي الأعلى، فيسميه عليا وقد فعل أبو طالب ذلك، ولم ننفرد نحن بهذا القول، بل وافقنا فيه بعض أعلامكم أيضا.
روى العلامة الهمداني الشافعي في كتابه مودة القربى / المودة الثامنة، ونقل عنه الحافظ القندوزي في كتابه ينابيع المودة / الباب السادس والخمسون: عن العباس بن عبد المطلب (رض) قال: لما ولدت فاطمة بنت أسد عليا سمته باسم أبيها أسد، ولم يرض أبو طالب بهذا الاسم فقال: هلم حتى نعلو [ جبل ] أبا قبيس ليلا وندعو خالق الخضراء لعله ينبئنا في اسمه، فلما أمسيا خرجا وصعدا أبا قبيس ودعيا الله تعالى، فأنشأ أبو طالب شعرا:
يا رب هذا الغسق الدجى | والقمر المنبلج الـمـضي |
بين لنا من أمرك الخفي | ما ذا ترى في اسم ذا الصبي |
فإذا خشخشة من السماء، فرفع أبو طالب طرفه فإذا لولب طرفه فإذا لوح مثل زبرجد أخضر فيه أربعة أسطر فأخذه بكلتي يديه وضمه إلى صدره ضما شديدا فإذا مكتوب:
يا أهل بيت المصطفى النبي | خصصتما بالولد الزكي |
إن اسمه من شامخ العلي | علي اشتق من العلي |
فسر أبو طالب سرورا عظيما وخر ساجدا لله تبارك وتعالى وعق [عنه] بعشر من الإبل، وكان اللوح معلقا في بيت الله الحرام يفخر به بنو هاشم على قريش حتى غلب الحجاج بن الزبير، انتهى كلام العلامة الهمداني.
أقول: وهذه الرواية عطف على ما شبق وتدل على أن أبا طالب كان مؤمنا بالله موحدا له سبحانه متوجها إليه في مهامه وحوائجه.
وأما قولك يا شيخ: بأن فقهاء الشيعة يفتون بوجوب ذكر علي (ع) في الأذان، فهو كذب وافتراء، ولو كنت صادقا فاذكر لنا فتوى واحدة من فقهائنا.
نعم نحن نذكر اسم الإمام علي (ع) ونشهد له بالولاية والإمامة، بقصد الندب وإجهارا بالحق، لأنا نعرف مندوبية ذلك ومطلوبية ذكر اسم علي بالولاية والإمامة بعد النبي (ص)، نعرفه مما ذكرنا من الروايات في كتبكم المعتبرة والتي مرت مع ذكر المصادر الكثيرة، بأن الله عز وجل قرن اسم علي (ع) مع اسم النبي (ص)، وذكر عليا بعد ذكر حبيبه ورسوله محمد (ص) حتى في عرشه العظيم وعلى أبواب الجنان قبل أن يخلق الأرض والسماوات.
ونكتفي بهذا ونرجع إلى صلب الموضوع في الحوار وهو ذكر أمهات الفضائل والأصول الثابتة لعلي (ع).
زهد الإمام علي (ع) وتقواه
والفضيلة الثانية التي امتاز بها ولا يساويه أحد فيها فضيلة الزهد والتقوى. وأجمع علماء الإسلام عامة، وجمهور المحدثين وأصحاب السيرة والتاريخ بأن علي بن أبي طالب كان أزهد الناس بعد رسول الله (ص) وأورعهم واتقاهم، حتى أن العلامة ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح نهج البلاغة نقل قول الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز أنه قال: ما علمنا أحدا كان في هذه الأمة بعد النبي (ص) أزهد من علي بن أبي طالب(88).
ونقل أعلام محدثيكم في كتبهم عن الأحنف بن قيس قال: دخلت على علي بن أبي طالب وقت إفطاره إذ دعا بجراب مختوم فيه سويق الشعير.
فقلت: يا أمير المؤمنين لم أعهدك بخيلا فكيف ختمت على هذا الشعير؟!
فقال: لم أختمه بخلا ولكن خفت أن يلينه الحسن أو الحسين بسمن أو زيت.
قلت: هما حرام عليك؟ قال: لا ولكن يجب على الأئمة أن يغتذوا بغذاء ضعفاء الناس وأفقرهم ليراهم الفقير فيرضى عن الله تعالى بما هو فيه، ويراهم الغني فيزداد شكرا وتواضعا(89).
ونقل المحدثون عن سويد بن غفلة وغيره، قال: دخلت على علي ابن أبي طالب في الكوفة فرأيت بين يديه رغيف من شعير وقدح من لبن، والرغيف يابس تارة يكسره بيده وتارة بركبتيه، فشق علي ذلك.
فعاتبت جارية له يقال لها فضة فقلت: أ ما ترحمين هذا الشيخ وتنخلين له هذا الشعير، أما ترين نشارته على وجهه وما يعاني منه؟!
فقالت: إنه عهد إلينا أن لا ننخل له طعاما قط. فالتفت علي إلي وقال: ما تقولها لها؟ فأخبرته وقلت: يا أمير المؤمنين ارفق بنفسك.
فقال: ويحك يا سويد ما شبع رسول الله (ص) من خبز بر ثلاثا حتى لقي الله، ولا نخل له طعام قط، يا بن غفلة! ذلك أحرى أن يذل النفس ويقتدي بي المؤمنون، وألحق برسول الله (ص)(90).
ونقل العلامة القندوزي في الينابيع / الباب الحادي والخمسون / قال: أخرج الموفق بن أحمد الخوارزمي عن عدي بن ثابت قال: أوتي علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، بفالوذج فأبى أن يأكل منه وقال: إنه شيء لم يأكل منه رسول الله (ص) فلا أحب آن آكل منه(91).
وفي الخبر المروي عن أهل البيت (ع) أن الإمام علي (ع) في الليلة التي ضرب فيها بسيف ابن ملجم لعنه الله، كان ضيفا عند ابنته زينب الكبرى (ع) فقدمت له الفطور في طبق فيه قرصان من خبز الشعير، وقصعة فيها اللبن الحامض، وقليل من الملح، فلما نظر الإمام إلى فطوره عاتب ابنته قائلا: بنية! متى رأيت أباك يجلس على مائدة فيها إدامان؟ ارفعي اللبن فإن في الملح كفاية، ثم أكل قرصا واحدا مع الملح وحمد الله تعالى. ثم قال: في حلال الدنيا حساب وفي حرامها عذاب وعقاب(92).
زهده في ملبسه
لقد وصف المحدثون والمؤرخون ملبوس الإمام علي (ع) فقالوا: كان كرباسا خشنا غليظا ورخيصا، بعض قدره بثلاث دراهم، وبعض بخمسة دراهم، وكان لباسه مرقعا تارة بجلد وتارة بالليف، ونقل سبط ابن الجوزي في التذكرة / الباب الخامس، عن الزمخشري إنه روى في كتابه ربيع الأبرار، عن أبي النوار أنه قال: والله لقد رقعت مدرعتي هذه حتى استحييت من راقعها و قد قيل لي: ألا تستبدلها، فقلت للقائل: ويحك أعزب! فعند الصباح يحمد القوم السرى.
ونقل أكثر أصحاب السيرة والتاريخ من أعلامكم، منهم محمد ابن طلحة في كتابه مطالب السئول / الفصل السابع / قال: ومنها ـ أي من قضايا زهده (ع) ـ أنه خرج إلى الناس يوما و عليه إزار مرقوع، فعوتب في لبسه، فقال: يخشع القلب بلبسه، و يقتدي به المؤمن إذا رآه علي(93)، قال: وقد اشترى يوما ثوبين غليظين فخير بشر ـ وهو خادمه ـ فيهما فأخذ واحدا و لبس هو الآخر.