لا يصح اختيار دين بغير دليل

ثالثا: أما قولك: أليس من الأفضل أن ننسى الماضي ونتحد مع بعض ونتبع الواقع؟

فأقول: بل الأفضل أن نعتبر من الماضي ولا نكرر أخطاء اسلافنا الماضين ولا سيما في أمر الدين.

والأفضل أيضا أن نتحد مع بعض، ولكن يجب أن يكون اتحادنا على قبول الحق، فيلزم قبل الاتحاد أن نبحث ونناقش لنعرف الحق فنتقبله ونتمسك به كلنا، وهذا هو الإتحاد الممدوح والذي يريده الله تعالى.

وأما قولك فنتبع الواقع ونخضع للتاريخ. فهو كلام أوهن من بيت العنكبوت. وفيه ضرب من المغالطة، لأنك بهذا الكلام تريد منا أن نتبع من غلب، ونخضع لمن حكم، وما أكثر الظالمين الذين غلبوا المظلومين وما أكثر الطغاة الذين حكموا في العالم. فليس كل من غلب وحكم حقيق بأن نتبعه ونخضع له.

وأما فيما هو بحثنا وهو الخلافة، فإن التاريخ يحدث ويحكي بأنه بعد وفاة رسول الله (ص) انقسم المسلمون واختلفوا، فقسم منهم تبعوا أبا بكر وبايعوه وخضعوا لحكمه وخلافته، والقسم الآخر

خالفوه ورفضوا حكمه وخلافته، وتبعوا عليا وأطاعوه مستندين في عملهم بالقرآن الحكيم وأحاديث النبي الكريم (ص).

فالواجب علينا اليوم أن ننظر إلى أقوال الطرفين ودلائلهم ونختار مذهب أحدهما بالدليل والبرهان، فإنه لا يصح التقليد في أصول الدين والمذهب. فهل يعذر أبناء اليهود والنصارى إذ اتبعوا ملة آبائهم وقلدوا أسلافهم بحجة القول: (إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون)(16)؟

بل يجب على كل مكلف أن يتدين بدين الله تعالى عن دراسة وتحقيق، ولابد له من دليل عقلي في إختيار الدين والمذهب.

فلا يصح أن يتبع الهوى فيميل إلى من أحب ويختار مذهبه، فإن اختيار الدين والمذهب يجب أن يكون على أساس المنطق القويم والعقل السليم.

ماهو دليلي على اختياري التشيع؟

أتظنون أني اخترت مذهب التشيع، لأني وجدت آبائي على هذا المذهب فقلدتهم تقليدا أعمى؟ لا والله!

فإني من حين عرفت نفسي وأحسست بحاجتي إلى دين أتدين به وأعمل بأحكامه وتعاليمه، بدأت أطالع في الأديان السماوية وغيرها، حتى أني طالعت أقوال الماديين والوجوديين أيضا، لكي أعرف الحق والحقيقة. فاخترت الإسلام عن معرفة ودراية، ثم درست أصوله وفروعه بدقة وتحقيق، فوحدت الباري جل وعلا وعبدته وفوضت إليه أموري كلها، وطالعت تاريخ سيد المرسلين وفهمت رسالته الشريفة، وقد ثبت عندي بالأدلة العقلية وبمقايسة دينه بسائر الأديان أن الإسلام هو الدين الأكمل والمعتقد الأفضل.

ثم نظرت إلى اختلاف المذاهب وتاريخ تأسيسها في الإسلام،وطالعت الأحداث التي حدثت بعد النبي (ص) وقضية الخلافة وتشكيل السقيفة وما بعدها، وطالعت تاريخ الخلفاء وأعمالهم، وكنت معتمدا في دراستي ومطالعاتي على مصادر الفريقين وكتب علماء الطرفين ومحدثيهم ومتكلميهم ومؤرخيهم.

وأشهد الله أني وصلت إلى حقانية مذهب الشيعة، وحقيقة أقوالهم وعقائدهم، وعرفت حق الإمام علي (ع) بالولاية والخلافة وأن الآخرين قد غصبوا حقه.

وأقسم بالله أني ما حصلت على هذه النتائج والحقائق إلا من الروايات والأخبار المذكورة في كتب علماء العامة وأعلامهم، وفي صحاحهم ومسانيدهم المعتبرة والموثوقة التي لا يجوز عندهم ردها، ولقد اعتمدت في بحث الخلافة والإمامة خاصة، على تآليف وتصانيف علماء السنة وطالعتها، أكثر من مطالعتي لكتب الشيعة. لأن الدلائل التي ذكرها علماء الشيعة في كتبهم، كانت أكثرها من كتب علماء السنة وأعلامهم. فرجعت إلى المصادر فوجدت فيها الدلائل أكمل وأتم. ولكن علماء السنة عندما يذكرون الآية القرآنية وشأن نزولها في الإمام علي (ع)، أو يذكرون حديث رسول الله (ص) في فضل الإمام علي (ع) فإنهم ينظرون إليها نظرا سطحيا، ويمرون عليها من غير تحقيق وتدقيق، فلا يتعمقون في معانيها والمقصود منها، ولو نظروا فيها بنظر التحقيق لوجدوا فيها نصوصا صريحة في خلافة الإمام علي (ع) وإمامته، وشهدوا كما نشهد بأن الإمام علي (ع) ولي الله وحجة الله وخليفة رسول الله (ص)، الأول بلا فصل.

الشيخ عبدالسلام: لا توجد في كتبنا المعتبرة نصوص في ولاية سيدنا علي كرم الله وجهه وإمامته ولزوم طاعته على الأمة..

قلت: أظنك يا شيخ كثير النسيان، وكأنك لم تذكر من أحاديثنا ومحاوراتنا إلا قليلا، فلذا أدعوك للرجوع إلى الصحف والمجلات التي نشرت مناقشاتنا الماضية، فإننا ذكرنا فيما سبق في كلامنا نصوصا كثيرة من القرآن الحكيم وحديث النبي الكريم (ص) في إمامة علي بن أبي طالب ولزوم

طاعته ومتابعته، وسأذكر بعضها من باب (وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين)(17).

الآيات والروايات في لزوم طاعة علي (ع)

أما النصوص في ولاية الإمام علي (ع) فكثيرة منها ما رواه الحافظ الشيخ سليمان القندوزي الحنفي في كتابه ينابيع المودة / باب 37. عن الفردوس للديلمي، وعن أبي نعيم الحافظ، وعن محمد ابن إسحاق المطلبي صاحب كتاب المغازي، وعن الحاكم، والحمويني، والخوارزمي، وابن المغازلي

وبعضهم أسند إلى ابن عباس، وبعضهم إلى ابن مسعود، وبعضهم إلى أبي سعيد الخدري أنهم قالوا: لما نزلت الآية الكريمة: (وقفوهم إنهم مسئولون)(18).

قال النبي (ص): إنهم مسئولون عن ولاية علي بن أبي طالب(19).

ثم إننا نجد في كثير من الأخبار المروية في كتبكم المعتبرة، أن رسول الله (ص) يختار الإمام علي من دون كل الصحابة، فيجعله باب علمه ويأمر المسلمين بلزوم طاعته بل يجعل طاعته طاعة الله سبحانه.

فقد روى أحمد بن حنبل في المسند، والمحب الطبري في ذخائر العقبى، والخطيب الخوارزمي في المناقب، والحافظ القندوزي في الينابيع، والعلامة الكنجي الشافعي في كفاية الطالب، عن النبي (ص) قال يا معشر الأنصار! ألا أدلكم على ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا؟ قالوا: بلى.

قال: هذا علي فأحبوه وأكرموه واتبعوه، إنه مع القرآن والقرأن معه، إنه يهديكم إلى الهدى ولا يدلكم على الردى، فإن جبرائيل أخبرني بالذي قلته.

وكذلك روى كثير من علمائكم ونقلته لكم في الليالي السالفة، أن رسول الله (ص) قال لعمار بن ياسر: يا عمار إن سلك الناس كلهم واديا وسلك علي واديا فاسلك وادي علي وخل عن الناس.

وكذلك ذكرت لكم في الليالي الماضية من كتب أعلامكم: أن رسول الله (ص) قال كرارا وأعلن

مرارا بين أصحابه: من أطاع عليا فقد أطاعني، ومن أطاعني فقد أطاع الله عز وجل.

فلا يخفى على العالم المتتبع أن مثل هذه الأحاديث كثيرة جدا في كتبكم، وقد صححها كبار أعلامكم وأئمتكم، حتى كاد يحصل منها التواتر المعنوي في لزوم متابعة الإمام علي (ع) ووجوب طاعته.

مع العلم بأننا ما وجدنا ولا وجد غيرنا حتى حديثا واحدا عن النبي (ص) يقول للمسلمين بأن

يطيعوا بعده أبا بكر أو عمر أو عثمان، ولا يوجد في الكتب حديث واحد عن رسول الله (ص) قال فيه بأن أحد هؤلاء الثلاثة وصية أو باب علمه، أو خليفته.

ومع ذلك، تريدون منا أن نوافقكم في قولكم بأن الإمام علي (ع) هو رابع الخلفاء الراشدين، ونقدم عليه أولئك الذين لن نجد حتى في كتبكم ما يتبىء بأن النبي (ص) عينهم أوصياء وخلفاء له، وأئمة على المسلمين!!

فهل هذا يوافق حكم العقل؟ وهل هو صحيح عند العقلاء وأصحاب الضمير والوجدان؟!

ثم فكروا، وأنصفوا! ألا يكون هذا الطلب والأمر الذي تريدون منا ، مخالفا لما أراده الله ورسوله؟!

إتحاد المسلمين

أما قولك: أليس من الأفضل أن نتحد؟

فنقول: إننا نتمنى ذلك، ولا نزال نسعى لتحقيق هذا الأمر، ونسأل الله تعالى أن يوحد المسلمين على الهداية وعدم الضلالة، وهذا لا يكون إلا بالتمسك بالثقلين كما قال رسول الله (ص): إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا.

ولقد ذكرت لكم في الليالي الماضية مصادر هذا الحديث الشريف من كتبكم المعتبرة، وقد صرح بعض علمائكم أنه من الأحاديث المتواترة.

ويبين لنا القرآن الكريم كذلك أساس الإتحاد وعدم التفرق فيقول: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا )(20).

قال ابن حجرفي الصواعق المحرقة(21) في تفسير الآية: أخرج الثعلبي في تفسير هذه الآية عن جعفر الصادق (رضي الله عنه) أنه قال: نحن حبل الله الذي قال الله تبارك وتعالى: ( واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) فالاتحاد يصبح ممكنا إذا كان على أساس التمسك بالقرآن وأهل البيت (ع)، وإلا فلا يمكن ذلك ولا يتحقق أبدا. كما نرى بعض علمائكم وأعلامكم يكتبون على الشيعة في كتبهم ويفترون عليهم ويتهمونهم بالكفر والشرك، وهو ادعاء بلا دليل. فامنعوا أولا هؤلاء المتعصبين المعاندين التابعين للخوارج والنواصب من هذه التهجمات والتعسفات، وردوا أقاويلهم وأباطيلهم، حتى يتحقق إن شاء الله التقارب والإتحاد بين الشيعة وأهل السنة، مع غض النظر عن الإختلافات الموجودة بينهم في العقائد والقواعد الدينية، كالتقارب والإتحاد بين المذاهب الأربعة، مع غض النظر عن كل الإختلافات الموجودة بينهم، مع أننا نجد في كتبهم أنهم كانوا يكفرون بعضهم بعضا، لشدة اختلافاتهم، ـ وقد نقلت لكم بعض تكفيراتهم في الليالي الماضية ـ ومع ذلك نرى أتباع أي واحد من المذاهب الأربعة يتمتع بالحرية الكاملة في كل البلدان والمدن الإسلامية، فيعمل برأي إمامه ويقوم بعباداته كلها على أساس مذهبه من غير مانع ورادع، حتى لو كان أهل تلك المدن من أتباع مذهب آخر.

ولكن نحن الشيعة على حسب مذهب أئمة أهل البيت ـ وهم العترة الهادية ـ يجب أن نسجد على

التراب، فنأخذ معنا قطعة من الطين اليابس فنسجد عليه، وإذا بكم تهرجون ضدنا وتفترون علينا فتقولون لجهالكم بأن الشيعة عباد الصنم، وتستدلون لهم بسجودنا على الطينة اليابسة، فتلبسون عليهم الأمر وتدلسون عليهم، بأن الطينة صنم، والشيعة يعبدونه!!

الشيخ عبدالسلام: إذن فلماذا تختلفون أنتم في صلاتكم وسجودكم مع المسلمين؟! ولو كنتم توافقونهم ما حدث هذا الإشتباه أو سوء التعبير والفهم. وأنا أنصحكم إن كنتم تريدون رفع الإتهام عن أنفسكم، فصلوا كما يصلي المسلمون عامة.

قلت: هذا الإختلاف إنما هو مثل اختلافكم أنتم اتباع الشافعي مع سائر المذاهب.

الشيخ عبدالسلام: نحن نختلف في الفروع وأنتم تختلفون في الأصول.

قلت: أولا: السجود جزء من الصلاة، والصلاة من فروع الدين.

ثانيا: اختلافكم مع أتباع مالك وأحمد وأبي حنيفة لم يكن في الفروع فحسب بل تعدى إلى الأصول أيضا بحيث نجد في الكتب كما قلت آنفا يفسق ويكفر بعضكم بعضا.

الشيخ عبدالسلام: التكفير والتفسيق من عمل المتعصبين والجاهلين ، وإلا فإجماع علماء العامة وأعلام أهل السنة على أن العمل بفتوى أي واحد من الأئمة الأربعة صحيح، والعامل مأجور ومثاب.

قلت: بالله عليكم فكروا وأنصفوا!! لماذا العمل برأي الأئمة الأربعة صحيح والعامل به مأجور ومثاب ـ مع العلم أن تعيين هؤلاء الأربعة إنما كان بأمر أحد الملوك واسمه " بيبرس " كما في خطط المقريزي كما مر قوله في الليالي الماضية ـ مع شدة اختلافهم في الفروع وحتى في أصول الدين؟ ولكن تجعلون العمل برأي أئمة أهل البيت(ع)، والأخذ بنظر العترة الهادية يوجب الكفر! مع العلم بأن النبي (ص) أرجع أمته إليهم إذا اختلفوا في الرأي. فأمر أن يؤخذ برأيهم لأنهم على الهدى والصواب، ومخالفهم يكون في العمى والضلال(22).

فسوء التعبير وسوء الفهم منكم بالنسبة لنا، لم يكن لأجل اختلافنا معكم في الأعمال، وإنما منشأه حبنا وولانا لأهل البيت والعترة الطاهرة (ع) وبغضنا لأعدائهم وظالميهم. وإلا فإن الاختلاف في

الأعمال والأحكام موجود بين نفس المذاهب الأربعة في الأصول والفروع من الطهارة إلى الديات، والجدير أن بعض فتاوي أئمتكم مخالفة لصريح القرآن واجتهادا خلاف النص، ومع ذلك تغضون النظر وتوجهون الفتوى بشيء من التوجيه وتعذرون المفتي بأنه عمل بالقياس والإستحسان.

ولكن الشيعة لا عذر لهم في سجودهم على التراب وهو مع كونه على أساس النصوص وعمل

النبي (ص) وقوله: " جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا "، يوجب عندكم كفر الشيعة وشركهم والعياذ بالله سبحانه وتعالى.

الشيخ عبدالسلام: أرجو أن تذكر بعض تلك الفتاوي التي أصدرها أئمة أهل السنة على خلاف القرآن الكريم!!

قلت: فتاواهم المخالفة للنصوص كثيرة ولو أردتم الاطلاع على جملتها أو جلها فراجعوا كتاب " الخلاف في الفقه " تأليف العلامة الكبير والبحر الغزير والفقيه البصير شيخ الطائفة الإمامية أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي (رحمه الله تعالى)(23).

ولكي يعرف الحاضرون الكرام بأني ما كذبت على أئمتهم وما افتريت على فقهائهم، أذكر بعض النماذج من تلك الفتاوي المخالفة لصريح القرآن الكريم.

فتوى أبي حنيفة: بجواز الوضوء بالنبيذ

كل مسلم له أدنى اطلاع وأقل معرفة بأحكام الدين والمسائل الشرعية، أو يتلو كتاب الله العزيز بتفكر وتدبر، يعلم بأنه إذا حضر وقت الصلاة وأراد أن يؤديها يجب عليه الوضوء أولا لقوله تعالى: (إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق)(24) ويجب أن يتم الغسل بالماء القراح، وإذا لم يوجد الماء القراح المطلق، فيجب التيمم حينئذ، لقوله سبحانه: (.. فلم تجدوا ماءا فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم)(25).

وعلى هذا يكون إجماع الشيعة وأتباع مالك والشافعي وأحمد ابن حنبل، وخالف أبو حنيفة الإجماع برأيه وأفتى بأنه لو فقد الماء وهو في السفر وأراد إقامة الصلاة فليتوضأ بنبيذ التمر، ولو كان مجنبا يغتسل به. وكلنا نعلم بأن النبيذ يكون ماء مضافا، وهو ليس بالماء المطلق الذي ذكره الله سبحانه في القرآن الحكيم، ولذا نجد في صحيح البخاري بابا عنوانه: (لا يجوز الوضوء بالنبيذ ولا المسكر).

الحافظ محمد رشيد: لأني على مذهب الإمام الشافعي، وأوافقكم على أن الوضوء لا يجوز إلا بالماء المطلق، وكذلك الغسل، وعند فقدانه يجب التيمم فلا يجوز عندنا الوضوء والغسل بالنبيذ. ولكن أظن أن هذه الفتوى منسوبة للإمام أبي حنيفة ولم تكن فتواه وإن اشتهر عنه ونسبت إليه، ولكن رب مشهور لا أصل له.

قلت: دفاعك مبني على الظن، وقال الله سبحانه: (إن الظن لا يغني من الحق شيئا)(26). ولقد نقل جمع كثير هذه الفتوى عن أبي حنيفة الفخر الرازي في تفسيره المسمى بمفاتيح الغيب: ج3 /552 في تفسير آية التيمم أو آية الوضوء، قال في المسلة الخامسة: قال الشافعي رحمه الله: لا يجوز الوضوء بنبيذ التمر، وقال أبو حنيفة رحمه الله: يجوز ذلك في السفر.

وكذلك نقلها ابن رشيد في كتابه بداية المجتهد.

الشيخ عبدالسلام: لم تكن فتوى الإمام الأعظم مخالفة للنص، بل هي موافقة لعمل رسول الله (ص) كما في بعض النصوص المروية.

قلت: تفضل بذكر تلك النصوص.

الشيخ عبدالسلام: منها الخبر المروي عن أبي زيد مولى عمرو بن حريث عن ابن مسعود قال: إن رسول الله (ص) قال لي في ليلة الجن: عندك طهور؟ قلت: لا، إلا شيء من نبيذ في إداوة. قال (ص): تمرة طيبة وماء طهور، فتوضأ.

وجاء عن طريق آخر، روى عباس بن وليد بن صبيح الحلال عن مروان بن محمد الدمشقي عن عبدالله بن لهيعة عن قيس بن الحجاج عن حنش الصنعاني عن عبدالله بن عباس عن ابن مسعود أنه قال: إن رسول الله (ص) قال له ليلة الجن: معك ماء؟ قال : لا، إلا نبيذا في سطيحة، قال رسول الله (ص): تمرة طيبة وماء طهور. صب علي، قال: فصببت عليه فتوضأ به.

ومن الواضح أن عمل النبي (ص) حجة لنا، فأي نص أظهر من العمل؟

قلت: لو كنت تعرف قول علمائكم الأعلام في رواة هذا الخبر ما احتججت به. ومن الواضح أن العلماء قبل أن يبنوا على الخبر ويعملوا به فإنهم يحققون حول رواته. فإذا حصل الوثوق بهم والإعتماد عليهم قبلوا روايتهم وعملوا بها، وإلا أعرضوا عنها ولم يعملوا بها.

لذلك قبل أن نبحث في أصل الموضوع، نبحث عن إسناد الخبر ورواته ، فنقول: أولا: أبو زيد مولى عمرو بن حريث، مجهول عند علماء الرواية والدراية، ولم يعبأوا بروايته ورد عليه الترمذي وغيره، وقال الذهبي في ميزان الإعتدال: إنه مجهول، وإن الحديث والخبر الذي نقله عن ابن مسعود غير صحيح. وقال الحاكم لن نجد غير هذا الخبر من هذا الرجل وهو مجهول، وعده البخاري من الضعاف لذا نرى القسطلاني والشيخ زكريا الأنصاري وهما اللذان شرحا صحيح البخاري، قالا في شرحهما في باب: لا يجوز الوضوء بالنبيذ، والخبر المروي عن أبي زيد مولى عمرو بن حريث، ضعيف.

وأما الخبر الثاني: فهو أيضا مردود لجهات عديدة: أولا: هذا الحديث والخبر غير مشهور ولم ينقله بهذا الطريق أحد من علمائكم وأعلامكم غير العلامة ابن ماجة القزويني. وثانيا: عدم نقل علمائكم الخبر بهذا الطريق معلوم بأنهم ما اعتمدوا على بعض رواته وسلسلة سنده كما قال الذهبي في ميزان الاعتدال وذكر أقوال العلماء في الأمر، فقال: عباس بن وليد لم يوثق ولم يسلم من جرح أرباب الجرح والتعديل فتركوه. وكذلك مروان بن محمد الدمشقي فإنه من المرجئة الضلال، وحكم الذهبي وابن حزم بضعفه، وهكذا عبدالله بن لهيعة فإن علمائكم عدوه من الضعفاء، فإذا كان في رواة هذا الحديث عدد من الضعفاء أو كان أحدهم ضعيفا فإن الرواية تسقط عن الإعتبار.

ثالثا: بناء على الأخبار التي رواها علماؤكم بطرقهم عن عبدالله ابن مسعود فإنه في ليلة الجن لم يكن أحد مع النبي (ص) كما نقل أبو داود في السنن في باب الوضوء، والترمذي في صحيحه عن علقمة قال: سألوا ابن مسعود: من كان منكم مع رسول الله (ص) ليلة الجن؟ فقال: ما كان معه أحد منا.

رابعا: ليلة الجن كانت في مكة قبل الهجرة، ونزول آية التيمم كان في المدينة المنورة بإجماع المفسرين. فعلى فرض صحة الخبر فإن آية التيمم نزلت ناسخة له.

ولهذه العلل فأنا أتعجب من الشيخ عبدالسلام، سلمه الله! كيف يتمسك بخبر مجهول ضعيف مردود من جهات عديدة عند العلماء الأعلام، فيتمسك به لينصر رأي أبي حنيفة الذي يعارض نص كلام الله العزيز، كما ذكرنا؟

النواب: هل المقصود من النبيذ، هذا الشراب المسكر الذي يحرمه أكثر العلماء؟

قلت: النبيذ قسمان: قسم غير مسكر وهو طاهر وحلال، وذلك عبارة عن الماء المضاف إليه التمر وقبل أن يحدث فيه انقلاب وفوران يصفى ويشرب، وهو شراب حلو طيب الطعم والرائحة. وقسم آخر يبقى التمر في الماء حتى يحدث فيه الإنقلاب والفوران، فيتغير طعمه ورائحته، ويكون مسكرا حراما. والنبيذ الذي محل بحثنا هو النبيذ غير المسكر، وإلا فإجماع المسلمين لا يجوز الوضوء بالنبيذ المسكر، كما مر بأن البخاري فتح بابا في صحيحه بعنوان [ باب لا يجوز الوضوء بالنبيذ ولا المسكر ].

غسل الرجلين في الوضوء مخالف للنص القرآني

ومن فتاوي أئمتكم المناقضة لكلام الله والمخالفة للنص الصريح فتواهم في الوضوء بوجوب غسل الرجلين، مع العلم بأن الله عز وجل يقول: (وامسحوا برؤسكم وأرجلكم إلى الكعبين).

وكلنا نعرف الفرق بين الغسل والمسح.

الشيخ عبدالسلام: توجد أخبار مروية في كتبنا توجب غسل الرجلين.

قلت: الأخبار والروايات تكون معتبرة إذا لم تكن مناقضة للقرآن الحكيم، ونحن نرى كلام الله العزيز يصرح بمسح الرجلين، فأي اعتبار لتلك الأخبار والروايات المغايرة للقرآن؟!

فآية الوضوء صريحة بالغسل ثم المسح بقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤسكم وأرجلكم إلى الكعبين)(27).

فقد عطفت أرجلكم على ما قبلها أي: (وامسحوا برؤسكم).

الشيخ عبدالسلام: إذا كان العطف على ما قبلها فيلزم أن تكون أرجلكم ـ مجرورة ـ مثل برؤسكم، وحيث نراها منصوبة فيكون العطف على جملة: فاغسلوا وجوهكم وأيديكم.

قلت: أولا: الأقرب يمنع الأبعد، فإن جملة: (وامسحوا) أقرب إلى كلمة: (أرجلكم) فلا مجال لعمل جملة: (فاغسلوا) ثم المقدر في العطف كلمة: (وامسحوا) ، فيكون (وامسحوا برؤسكم) و(أمسحوا... أرجلكم) . فتكون أرجلكم منصوبة لمحل امسحوا وكذلك لقاعدة النصب بنزع الخافض وهي القاعدة المقبولة عند النحاة والمعمول بها كما في القرآن الحكيم قوله تعالى:

(وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار)(28).

أي: تجري من تحتها الأنهار، فنصبت كلمة تحتها لحذف حرف الجر وكذلك قوله سبحانه: (واختار موسى قومه سبعين رجلا)(29) تقديره: واختار موسى من قومه ولكن كلمة قومه نصبت لحذف " من " وذلك للقاعدة التي ذكرناها.

وكذلك في آية الوضوء نصبت كلمة: (أرجلكم) لحذف الباء عنها فتكون منصوبة بنزع الخافض.

وإذا أردتم تفصيلا أكثر فراجعوا تفسير الفخر الرازي فله بحث مفصل في تفسير الآية الكريمة

ويخرج من البحث بنتيجة وجوب المسح لا الغسل.

فتواهم بجواز المسح على الخف

وأعجب من فتواهم بوجوب غسل الرجلين في الوضوء، فتواهم بجواز وكفاية المسح على الخفين في الوضوء، وهذا خلافه لنص القرآن أظهر من الأول. ومن بواعث العجب والاستغراب في نفس كل عاقل فتواهم بعدم كفاية المسح على الرجلين بل وجوب غسلهما في الوضوء، ولكن كفاية مسح الخفين في الوضوء دون غسل الرجلين، فكيف المسح على الخفين يحل محل غسل الرجلين؟ فاعتبروا يا أولي الألباب!!

الشيخ عبد السلام: لقد أفتى الأئمة الكرام (رضي الله عنهم) بجواز مسح الخفين في الوضوء وكفايته عن غسل الرجلين عند ضرورة سفر أو وجود خطر، بدليل الروايات الموجودة في كتبنا التي تحكي عمل رسول الله (ص) بذلك.

قلت: لقد ذكرنا لكم مرارا حديث رسول الله (ص) في الإعراض عن الروايات والأحاديث التي تروى عنه (ص) وتكون معارضة لكلام الله ومغايرة للقرآن الحكيم، فأمر(ص) بإسقاطها وعدم اعتبارها. وعلى هذا نجد روايات كثيرة جدا ردها وأسقطها علماؤكم وأعرضوا عنها وأعلنوا بأنها من الموضوعات.

وأما الأخبار والروايات التي وردت في كتبكم عن جواز المسح على الخفين في الوضوء، فهي متعارضة ومختلفة، وعليها نشأ الاختلاف في آراء الأئمة الأربعة، فبعضهم أجاز ذلك في السفر دون الحضر، وبعضهم أجاز ذلك في السفر والحضر وغير ذلك.

قال ابن رشيد الأندلسي في كتابه بداية المجتهد ج1 ص15 و16 / قال في الموضوع: سبب اختلافهم تعارض الأخبار في ذلك. وقال في موضع آخر: والسبب في اختلافهم اختلاف الآثار في ذلك.

فكيف يجوز لكم عقلا وشرعا العمل بالأخبار المتعارضة والمتضاربة، والمخالفة لنص القرآن؟! وكلنا نعلم أن الأصل والقاعدة المعمول بها عند تعارض الأخبار أن يؤخذ بالخبر الموافق للقرآن ويترك غيره.

فتواهم بجواز مسح العمامة

والنص الصريح في القرآن الحكيم على مسح الرأس بقوله تعالى: (وامسحوا برؤوسكم) . وعلى أساسه أفتى أئمة أهل البيت والعترة الهادية (ع) بوجوب مسح بعض الرأس لوجود الباء و هو باء التبعيض. و أفتى الشافعي، و مالك، و أبو حنيفه بوجوب مسح الرأس أيضا، و لكن خالفهم أحمد بن حنبل و إسحاق و الثوري و الأوزاعي فأفتوا بجواز وكفاية مسح العمامة التي على الرأس في الوضوء، فلا حاجه لكشف الرأس. هذا ما نقله عنهم الفخر الرازي في نفسيره الكبير في تفسير الآية الكريمة. و أنتم تعلمون ـ كما أن كل عاقل يعلم ـ بأن العمامة غير الرأس حتى إذا كانت على الرأس، فإن الرأس عرفا و لغة يطلق على جزء من بدن الإنسان، و هو أعلى الأجزاء و قمة البدن، و يتشكل من عظم الجمجمة و اللحم و الجلد و الشعر الذي يكون على ذلك العظم، و أما العمامة شيء آخر و هي قطعة من قماش تلف على الرأس.

لماذا تفرقون بين المسلمين؟

نحن و أنتم كلنا مسلمون،و اختلاف الشيعة و أهل السنة كاختلاف أتباع المذاهب الأربعة فيما بينهم علما أن اختلافهم لم يكن في الفروع فقط، بل اختلفوا في الأصول أيضا،و مع ذلك يغضون النظر عن اختلافاتهم، و يتحمل أتباع كل مذهب أتباع المذاهب الأخرى من غير صدام و صراع، و من غير نزاع و عراك،فيعمل كل منهم و يلتزم برأي رئيس مذهبه، دون أن يعارضه أحد من أتباع المذاهب الثلاثة الأخرى.

و لكن أكثر هؤلاء إذا رأوا الشيعة يعملون بما يخالفهم، هاجموهم و رموهم بالكفر و الشرك، مع علمهم بأن الشيعة يلتزمون بقول أئمة أهل البيت (ع) ويتمسكون بالعترة الهادية ويأخذون عنهم.

وحتى في هذا المجلس الذي انعقد للتفاهم والنقاش السليم، كم ذكرتم أعمالكم الشيعة واستدللتم بها على كفرهم وشركهم لجهلهم بواقع الأمر، ولما كشفنا لكم الحقيقة وسمعتم إلى دلائلنا، اعتذرتم ورجعتم عن قولكم. وقد تكرر منكم الهجوم ومنا الدفاع، ومع تكرار اعتذاركم إلينا لم يتوقف تهاجمكم علينا، وآخر ذلك صدر بصيغة العتاب والنصح وهو قول الشيخ عبدالسلام ـ سلمه الله ـ في أوائل البحث إذ قال: وأنا أنصحكم، إن كنتم تريدون رفع الإتهام عن أنفسكم، فصلوا كما يصلي المسلمون عامة.

ومع احترامي لجناب الشيخ وتقديري لنصحه، أقول: نحن وأنتم متفقون على وجوب الصلاة في اليوم خمس مرات، ومتفقون على عدد ركعاتها وهي: في الصبح ركعتان والظهر أربع ومثلها العصر وفي المغرب ثلاث ركعات وفي العشاء أربع، لكن في فروع الصلاة ومسائلها توجد اختلافات كثيرة بين كل المذاهب والفرق الإسلامية لا بين الشيعة والسنة فحسب، فكما يختلف واصل بن عطاء مع أبي الحسن الأشعري في الأصول والفروع، ويختلف الأئمة الأربعة في أكثر المسائل الفقهية، ويختلف سائر علمائكم وأصحاب الرأي والاجتهاد من أعلامكم مثل داود وكثير وسفيان الثوري وحسن البصري والأوزاعي وقاسم بن سلام وغيرهم، فآراؤهم تختلف في المسائل والأحكام ورأي أئمة أهل البيت (ع) وفتاواهم في المسائل والأحكام أيضا تختلف مع المذاهب الأربعة وغيرهم. فإذا كان اختلاف الرأي يوجب التهاجم والاتهام، فلماذا لا يكون التهاجم والإتهام على غير الشيعة، يعني: أتباع المذاهب الأربعة؟ مع العلم أن أئمتهم يفتون في بعض المسائل على خلاف ما أنزل الله تعالى، كما ذكرنا نماذج منها!!

ولكنا إذا خالفنا العامة في صلاتنا، بأن سجدنا على طينة يابسة فبدل أن يسألونا عن الدليل والسبب يتهمونا بعبادة الأصنام ويسمون تلك الطينة التي بسجد عليها بالصنم، فلماذا هذا الجهل والجفاء؟! ولماذا هذا التفريق بين المسلمين ؟!

الشيخ عبدالسلام: كما قلتم بأن مجلسنا هذا إنما انعقد للتعارف والتفاهم، وأنا أشهد الله سبحانه بأني لم أقصد الإساءة إليكم والتجاسر عليكم، فإذا صدر مني ما يسوء فسببه عدم اطلاعنا على مذهبكم وعدم مطالعتنا لكتبكم، فما كنا نعرفكم حق المعرفة، لأنا ما عاشرناكم ولا جالسناكم وإنما سمعنا وصفكم من لسان غيركم وتلقيناها بالقبول من دون تحقيق، فالتبست علينا كثير من الحقائق، ومع تكرار الاعتذار، أرجوكم أن تبينوا لنا سبب سجودكم على الطينة اليابسة؟

لماذا نسجد على التربة؟

قلت: أشكر شعوركم الطيب وبيانكم الحلو العذب. وأشكركم على هذا الاستفهام، لأن السؤال والاستفهام أجمل طريقة وأعقل وسيلة لإزاحة أي شبهة وإبهام. وأما جواب السؤال: راجعوا كتب التفاسير واللغة فإنهم قالوا في معنى السجود: وضع الجبهة على الأرض للعبادة، وهو منتهى الخضوع، ولقد أفتى أئمتكم بأن كل ما يفرش به الأرض يجوز السجود عليه سواء كان من صوف أو قطن أو إبريسم أو شيء آخر، فأجازوا السجود على كل شيء حتى أفتى بعضهم بجواز السجود على العذرة اليابسة!

لكن فقهاءنا تبعا لأئمة أهل البيت من العترة الهادية (ع) قالوا بعدم جواز السجود إلا على الأرض أو ما أنبتته مما لا يؤكل ولا يلبس، فالبساط والفرش لا يصدق عليه اسم الأرض، بل يكون حاجزا بينها وبين الجبهة. لذلك فنحن نأخذ طينة يابسة ـ تسهيلا للأمر ـ ونسجد عليها في الصلاة.

لماذا السجود على التربة الحسينية؟

الشيخ عبدالسلام: نحن نعلم بأنكم تخصصون تراب كربلاء للسجود فتصنعون منه أشكالا مثل الأصنام فتقدسونها وتحملونها في مخابئكم وتقبلونها وتوجبون السجود عليها. وهذا العمل يخالف سيرة المسلمين، ولذلك يهاجمونكم ويشنون عليكم تلك التهم والكلمات غير اللائقة بكم.

قلت: هذه المعلومات التي أبديتها هي من تلك المسموعات التي سمعتها من مخالفينا وأعدائنا، وتلقيتها بالقبول بدون تحقيق وتفحص، وإن من دواعي الأسف وجود هذه الحالة، إذ تذعنون بشيء من غير تحقيق فترسلونها إرسال المسلمات، وتنتقدون الشيعة في أشياء وهمية ليس لها وجود، وقد قيل: " ثبّت العرش ثم انقش "، وإن كلامكم بأننا نصنع من تراب كربلاء أشكالا مثل الأصنام فنقدسها كلام فارغ وتقول باطل وليس إلا اتهاما وافتراء علينا، وغرض المفترين إلقاء العداوة والبغضاء بيننا وبينكم. وتمزيق المسلمين وتفريقهم، كل ذلك لأجل الوصول إلى مصالحهم الشخصية ومنافعهم المادية الفردية كما قيل: " فرق تسد ".

ولو كنتم ـ قبل الحين وقبل أن تصدقوا كلام المغرضين ـ تفتشون عن الواقع وتحققون عن الموضوع، بأن تسألوا من الشيعة الذين تعرفونهم وتجاورونهم: ما هذه الطينة التي تسجدون عليها؟ لسمعتم الجواب: أننا نسجد لله سبحانه على التراب، خضوعا وتعظيما له عز وجل، ولقالوا: لا يجوز عندنا السجود بقصد العبادة لسوى الله سبحانه وتعالى.

السجود على تراب كربلاء غير واجب عندنا

واعلم أيها الشيخ بأن علماءنا وفقهاءنا لم يوجبوا السجود على تراب كربلاء كما زعمت! ويكفيك مراجعة كتبهم الفقهية ورسائلهم العملية التي تتضمن الفروع والمسائل الأولية في العبادات والمعاملات وغيرها، فإنهم أجمعوا على جواز السجود على الأرض سواء التراب أو الحجر والمدر والرمال وغيرها من ملحقات الأرض وعلى كل ما يطلق عليه الأرض عدا المعادن، وكذلك أجازوا السجود على كلما تنبتها من غير المأكول والملبوس. هذا بحكم السنة الشريفة، والأول بحكم الكتاب العزيز. ولذا قالوا بأن السجود على الأرض أفضل، وبعض فقهائنا أجاز السجود على النبات من غير المأكول والملبوس عند فقدان مشتقات الأرض. لذلك وعملا بالأفضل نحمل معنا طينة يابسة لكي نضعها على الفرش والبساط ونسجد عليها في الصلوات، لأن أكثر الأماكن مفروشة بما لا يجوز السجود عليه كالبسط المحاكة من الصوف أو القطن وما شابه ذلك، وتسهيلا للأمر فإننا نحمل معنا الطينة اليابسة، لنسجد عليها في الصلاة، وأما إذا صادف أن وقفنا على التراب للصلاة، فلا نضع الطينة اليابسة بل نسجد على نفس التراب مباشرة، إذ يتحقق السجود الذي أراده الله تعالى من عباده المؤمنين.

الشيخ عبدالسلام: لكنا نرى أكثركم تحملون تربة كربلاء وتقدسونها، وكثيرا ما نرى الشيعة يقبلونها ويتبركون بها، فما معنى هذا؟ وهي ليست إلا تربة كسائر التراب.

فضيلة السجود على تربة كربلاء

قلت: نعم نحن نسجد على تراب كربلاء، ولكن هذا لا يعني الوجوب فلا يوجد فقيه واحد من فقهاء الشيعة في طول التاريخ أفتى بوجوب السجود على تراب كربلاء. وإنما أجمعوا على جواز السجود على تراب أي بلد كان، إلا أن تراب كربلاء أفضل وذلك للروايات الواردة عن أئمة أهل البيت (ع) بأن السجود على تراب كربلاء يخرق الحجب السبع، يعني: يصل إلى عرش الرحمن والصلاة تقع مقبولة عند الله سبحانه وتعالى.

وهذا تقدير معنوي لجهاد الإمام الحسين (ع)، إذ أنه أقدم على الشهادة في سبيل الله لأجل إحياء الصلاة وسائر العبادات. فتقديس التربة التي أريق عليها دماء الصفوة من آل محمد (ص) وتقديس التربة التي تحتضن الأجساد المخضبة بدماء الشهادة والجهاد المقدس، والتربة التي تضم أنصار دين الله وأنصار رسول الله (ص) وأهل بيته الأطهار، تقديسها تقديس للدين وللنبي (ص) ولكل المكارم والقيم ولكل المثل العليا التي جاء بها سيد المرسلين وخاتم النبيين محمد (ص).

ولكن مع كل الأسف نرى بعض من ينتسبون إلى أهل السنة ـ وهم أشبه بالخوارج والنواصب ـ يفترون على الشيعة بأنهم يعبدون الإمام الحسين، ويستدلون لإثبات فريتهم وباطلهم، بسجود الشيعة على تراب قبر الحسين (ع) مع العلم بأنه لا يجوز عندنا عبادة الإمام الحسين (ع) ولا عبادة جده المصطفى وأبيه المرتضى اللذين هما أعظم رتبة وأكبر جهادا من الحسين (ع).

وأقول بكل وضوح: بأن عبادة غير الله سبحانه وتعالى كائنا من كان، كفر وشرك. ونحن الشيعة لا نعبد إلا الله وحده لا شريك له ولا نسجد لغيره أبدا. وكل من ينسب إلينا غير هذا فهو مفتر كذاب.

الشيخ عبدالسلام: الدلائل التي نقلتموها في سبب تقديسكم لتراب كربلاء إنما هي دلائل عقلية مستندة إلى واقعة تاريخية أو بالأحرى هي دلائل عاطفية، ونحن بصدد الاستماع إلى أدلة نقلية، فهل توجد روايات معتبرة تحكي تقديس النبي (ص) واعتنائه بتراب كربلاء؟

اهتمام النبي (ص) بتربة كربلاء

قلت: أما في كتب علمائنا المحدثين ونقلة الأخبار والروايات فقد ورد الكثير عن إئمة أهل البيت عليهم السلام وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في تقديس تربة كربلاء واهتمامهم واعتنائهم بها وهم قد رغبوا شيعتهم بالسجود عليها وفضلوها على سائر التراب، وكلامهم سند محكم لنا ودليل أتم للعمل بدين الله عز وجل.

وأما الروايات المنقولة في كتبكم فكثيرة أيضا، منها: كتاب الخصائص الكبرى للعلامة جلال الدين السيوطي، فقد ذكر روايات كثيرة عن طريق أبي نعيم الحافظ والبيهقي والحاكم وغيرهم، وهم بالإسناد إلى أم المؤمنين أم سلمة وعائشة، وأم الفضل زوجة العباس عم رسول الله (ص) وابن عباس وأنس بن مالك وغيرهم، ومن جملة تلك الروايات قول الراوي: رأيت الحسين في حجر جده رسول الله (ص) وفي يده تربة حمراء وهو يشمها ويبكي، فقلت: ما هذه التربة يا رسول الله؟ ومم بكاؤك؟ فقال (ص): كان عندي جبرئيل فأخبرني أن ولدي الحسين يقتل بأرض العراق، وجاءني بهذه التربة من مصرعه. ثم ناولها لأم سلمة (رض) وقال لها: أنظري إذا انقلبت دما عبيطا فاعلمي بأن ولدي الحسين قد قتل.