فوضعتها أم سلمة في قارورة وهي تراقبها كل يوم، حتى إذا كان يوم عاشوراء من سنة 61هجرية فإذا بالتربة قد انقلبت دما عبيطا، فصرخت: واولداه واحسيناه. وأخبرت اهل المدينة بقتل الحسين (ع)(30).
ولقد أجمع علماؤنا أن أول من اتخذ من تراب كربلاء ـ بعد استشهاد أبي عبدالله الحسين سيد الشهداء وأنصاره وصحبه السعداء الشهداء الأوفياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ـ هو الإمام السجاد زين العابدين، إذ حمل معه كيسا من تلك التربة الزاكية الطيبة، فكان يسجد على بعضها، وصنع ببعضها مسباحا يسبح به. وهكذا فعل أئمة أهل البيت(ع) من بعده، وهم أحد الثقلين، فيلزم الإقتداء بهم والأخذ بقولهم لقول النبي الكريم (ص): إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا، وهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض.
فالتمسك بهم وبقولهم وفعلهم أمان من الضلال وموجب لدخول الجنة معهم إن شاء الله تعالى.
ولقد روى شيخ الطائفة أبو جعفر الطوسي رضوان الله تعالى عليه، في كتابه مصباح المتهجد، بأن الإمام الصادق جعفر بن محمد (ع) كان يحمل معه شيئا من تربة كربلاء في منديل أصفر، وكان وقت الصلاة يفتح ذلك المنديل ويسجد على تلك التربة ، وكان يقول: إن السجود على تراب قبر جدي الحسين (ع) غير واجب ولكن أفضل من السجود على غيره من بقاع الأرض. وهذا رأي جميع فقهاء الشيعة بلا استثناء.
فكانت الشيعة أيضا تحمل من تراب كربلاء في مناديل معهم، فإذا صار وقت الصلاة فتحوا المنديل وسجدوا على التراب الذي فيه؛ وبعد ذلك فكروا بصنع قطعات يسهل حملها، فمزجوا تراب كربلاء بالماء وجعلوا منه قطعات من الطين اليابس تسهيلا لحمله ونقله فكل من أحب يأخذ معه طينة يابسة يحملها معه فإذا صار وقت الصلاة ، وضعها حيث يشاء فيسجد عليها، وهو من باب الفضيلة والإستحباب، وإلا فنحن نسجد على كل ما يطلق عليه اسم الأرض، من الحجر والمدر والتراب والحصي والرمل من كل بقاع الأرض.
والآن فكروا هل يصح منكم ـ وأنتم علماء القوم ـ أن تهاجموا الشيعة المؤمنين، لأجل سجودهم على تراب كربلاء؟ فتلبسوا الواقع على أتباعكم، فيظنون بأن الشيعة كفار ومشركون، يعبدون الأصنام، ومن المؤسف أن بعض علماء أهل السنة أيضا يماشي عامة الناس ويؤيدهم من غير أن يتحقق في الموضوع، ليعرف ما هو دليل الشيعة على عملهم وما هو معنى ومغزى سجودهم على الطينة اليابسة؟!
ولو كان علماء العامة يحققون في ذلك لعرفوا أن الشيعة أكثر خضوعا وأكثر تذللا لله عز وجل، إذ يضعون جباههم ـ وهو أفضل مواضع الجسم ـ على التراب الذي يسحق بالأقدام، يضعون جباههم عليه خضوعا لله وعبودية له سبحانه، وهكذا يتصاغرون أمام عظمة الله تعالى ويتذللون له عز وجل.
فالعتب على علماء العامة إذ يتبعون بعض أسلافهم في إثارة التهم والافتراءات والأكاذيب على الشيعة بغير تحقيق وتدبر، فنحن ندعوهم إلى التفكر والتعمق في معتقداتهم ومعتقداتنا، ونطلب منهم بإلحاح أن يحققوا المسائل الخلافية بيننا وبينهم، فيعرفوا دلائلنا، لعلهم يجدوا الحق فيتبعوه.
كما نؤكد عليهم أن يمروا بفتاوي أئمة المذاهب الأربعة، ليجدوا سخافة الرأي وغريب النظر فيها من قبيل جواز نكاح الأم، ونكاح الولد الأمرد في السفر، أو المسح على العمامة والخفين في الوضوء والوضوء بالنبيذ، أو السجود على العذرة اليابسة وغيرها من الفتاوي العجيبة والآراء الغريبة(31). والأغرب تسليم سائر علمائكم لتلك الآراء وعدم نقضها، ولكنهم يطعنون في رأي أئمة أهل البيت (ع)، ويتجرءون على ردهم، والتجاسر على رمي شيعتهم الذين يتبعونهم بالكفر والشرك، وربما أفتوا بجواز قتل الشيعة وإباحة أموالهم، فبهذه الفتاوي والأعمال يضعفون جانب الإسلام، ويعبدون الطريق لسلطة اليهود والنصارى على رقاب المسلمين وبلادهم.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوحد بين المسلمين ويؤلف قلوبهم ويلقي بيننا وبينكم المودة والمحبة إنه سميع مجيب.
الرجوع إلى موضوع نقاشنا في الليلة الماضية
نكتفي بهذا المقدار من العتاب والتظلم، ونرجع إلى موضوع الحوار والنقاش الذي تركناه ناقصا في الليلة الماضية. وهو ردنا لكلام فضيلة الشيخ عبدالسلام، إذ قال: حيث كان أبو بكر أكبر سنا من سيدنا علي كرم الله وجهه، أجمع الأصحاب على تقديمه في الخلافة فبايعوه وأخروا عليا.
فأقول: أولا: ادعاء الإجماع باطل.. لمخالفة بني هاشم قاطبة ، وكذلك مخالفة الذين اجتمعوا في بيت السيدة فاطمة (ع)، وهكذا سعد ابن عباده فإنه خالف خلافة أبي بكر وما بايعه إلى آخر عمره، وتبعه أكثر قومه لأنه كان صاحب الحل والعقد فيهم وكانوا له خاضعين تابعين(32).
ثانيا: أما قولك بأن أبا بكر كان أحق بالخلافة من الإمام علي(ع) لأنه كان أكبر سنا، فمردود أيضا، ولا يخفى على من درس التاريخ وسيرة النبي (ص)، بأن رسول الله كان يولي عليا مهام الأمور، مع وجود المسنين، لكنه كان يرى عليا لائقا وأهلا لتولي الأمور المهام ولا يرى للمسنين لياقة وكفاءة مثل الإمام علي (ع).
وإن عزل أبي بكر من تبليغ الآيات الأولى من سورة براءة، ونصب علي (ع) مكانه من أجلى مصاديق ذلك وأظهرها وأشهرها.
النواب: أرجو أن تبينوا لنا هذا الموضوع، لأنكم في إحدى الليالي السالفة أيضا أشرتم إليه وما شرحتموه، ويبدو أن هذه القضية من الأمور المهمة والمسلمة، لأني ما أحسست مخالفة وإنكار من علمائنا، حينما تشيرون إليها.
الله جل جلاله عزل أبا بكر ونصب عليا عليه السلام
قلت: لقد أجمع علماء المسلمين وأهل التاريخ والسير والمفسرون بأن آيات أول سورة براءة حين نزلت على النبي (ص)، وفيها ذم المشركين والبراءة منهم وإعلان الحرب عليهم، بعث رسول الله (ص) أبا بكر بالآيات ليؤذن بها في موسم الحج ويسمعها المشركين، وكان ذلك سنة تسع من الهجرة، فلما انطلق أبو بكر نحو مكة ومعه جماعة من المسلمين، دعا رسول الله (ص) عليا فقال له: أخرج بهذه الآيات، فإذا اجتمع الناس إلى الموسم فأذن بها حتى يسمع كل من حضر من المشركين فيبلغوا أهل ملتهم ، أن لا يدخلوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا، ودفع النبي (ص) ناقته العضباء إلى الإمام علي (ع) فركبها وسار حتى أدرك أبا بكر بذي الحليفة، فأخذ منه الآيات وأبلغه أمر النبي (ص) فرجع أبو بكر إلى المدينة فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله هل نزل في قرآن؟ فقال (ص): لا ولكن لا يبلغ عني إلا أنا أو رجل مني.
وأما علي(ع) فقد ذهب بالآيات وأذن بها في الحج ويوم النحر وأسمعها كل من حضر من المشركين كما أمره رسول الله (ص).
النواب: هل ذكر أعلام العامة وكبار علماء السنة هذا العزل والنصب في كتبهم، أم أن الشيعة انفردوا بنقل هذا الخبر؟
قلت: لقد بينت لكم آنفا، أن علماء الإسلام من محدثين ومؤرخين ومفسرين ذكروا الخبر ونشروه في كتبهم، وسأذكر لكم بعضها لكي تطمئن قلوبكم بحقيقة الخبر وصدقه:
صحيح البخاري: ج4 و5، والجمع بين الصحاح الستة ج2، وسنن البيهقي صفحة 9 و 224، وجامع الترمذي: ج2/135، وسنن أبي داود، ومناقب الخوارزمي ، وتفسير الشوكاني: ج2/319 ومطالب السئول، وينابيع المودة / باب 18، والرياض النضرة وذخائر العقبى / 69، وتذكرة الخواص لسبط بن الجوزي تحت عنوان: تفسير معنى قوله(ص): ولا يؤدي عني إلا علي (ع)، وكتاب خصائص مولانا علي بن أبي طالب للنسائي / 20، طبع التقدم بالقاهرة نقل الحديث والخبر عن ستة طرق، والبداية والنهاية لابن كثير الدمشقي: ج5 / 38 و ج7 / 357، والإصابة لابن حجر العسقلاني: ج2 / 509، تفسير الدر المنثور للسيوطي: ج3 / 208 في أول تفسير سورة براءة، والطبري في جامع البيان: ج10/41، والثعلبي في تفسير كشف البيان، وابن كثير أيضا في تفسيره: ج2 / 333، وروح المعاني للآلوسي: ج3 / 268 والصواعق المحرقة لابن حجر المكي / 19، طبع الميمنة بمصر، ومجمع الزوائد للحافظ الهيثمي: ج7 / 29، وكفاية الطالب للعلامة الكنجي الشافعي / باب 62 رواه مسندا عن أبي بكر، ثم قال: هكذا رواه الإمام أحمد في مسنده، ورواه أبو نعيم الحافظ، وأخرجه الحافظ الدمشقي في مسنده بطرق شتى، وأخرجه الإمام أحمد في المسند: ج1 / 3 و 151، و ج3 / 283، و ج4 / 164 و 165، والمستدرك الحاكم: ج2/51 و 331، وكنز العمال: ج1 / 246 ـ 249 و ج6 / 154 في فضائل علي (ع). ورواه غير هؤلاء وهو من الأخبار المتواترة.
السيد عبدالحي: حينما أسمع أو أقرأ هذا الخبر، يتبادر سؤال في نفسي وهو: أن رسول الله (ص) في مثل هذه الأمور لا يقدم إلا بإشارة من الله سبحانه ، فكيف بعث أولا أبا بكر(رض) ثم عزله وبعث سيدنا عليا كرم الله وجهه؟ يا ترى ما الحكمة في هذا العمل؟! وهو لا يخلو من شيء لا من الاستخفاف وشبهه!!
لماذا عزل النبي (ص) أبا بكر؟
قلت: لم يذكر أحد العلماء والمحدثين في الكتب سببا منصوصا لعمل النبي (ص)، وإنما ذكروا بعض الأسباب الاحتمالية، أشهرها ما نقله ابن حجر في صواعقه / 19، وسبط ابن الجوزي في تذكرته تحت عنوان: تفسير قوله (ص): ولا يؤدي عني إلا علي جاء فيه، وقال الزهري: إنما أمر النبي (ص) عليا (ع) أن يقرأ براءة دون غيره لأن عادة العرب أن لا يتولى العهود إلا سيد القبيلة وزعيمها أو رجل من أهل بيته يقوم مقامه كأخ أو عم أو ابن عم فأجراهم على عادتهم، قال: وقد ذكر أحمد في الفضائل بمعناه. (انتهى ما نقلناه من التذكرة).
وأما هذا في نظري غير تام، لأنه لو كان كذلك لما بعث رسول الله (ص) أبا بكر أولا. بل كان من بادئ الأمر يبعث عمه العباس وهو ذو شيبة وكان يعد الشيخ ذا السن من بني هاشم، وإنما الذي يظهر من هذا الأمر، أن الله ورسوله (ص) أرادا أن يظهرا مقام الإمام علي(ع) ومنزلته، وأنه سفير النبي (ص)، والذي هو كفوٌ وأهل لينوب عنه (ص).
نعم أرادا كشف هذه الحقيقة حتى يستنبط شيعة علي (ع) منها الرد القانع والجواب القاطع على كلامكم الزائف وقولكم بأن أبا بكر أحق بالخلافة من علي (ع) لأنه كان أسن منه.
وإذا كان النبي (ص) يبعث عليا (ع) بادئ الأمر، ما كان يلفت النظر ولم يكن له هذا الصدى والانعكاس الذي حصل من عزل أبي بكر ونصب الإمام علي (ع) وذلك بأمر من جبرئيل عن الله عز وجل إذ قال: لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك.
فيحصل من هذا الخبر المتواتر أن نيابة رسول الله (ص) والقيام مقامه لا يرتبط بكبر السن أو حداثته، وإنما يلزم فيه الكفاءات، واللياقات التي كانت في الإمام علي (ع) ولم تكن في أبي بكر، ولذا عزل النبي (ص) ـ بأمر الله سبحانه ـ أبا بكر ونصب الإمام علي لأداء تلك المهمة، فهو المقدم عند الله ورسوله (ص) على أبي بكر وغيره.
السيد عبدالحي: لقد ورد في بعض الأخبار عن أبي هريرة بأن عليا كرم الله وجهه التحق بأبي بكر بأمر النبي (ص)، وذهبا معا إلى مكة فعلي بلغ الآيات النازلة في أول سورة البراءة، وأبو بكر علم الناس مناسك الحج، فكلاهما متساويان في التبليغ.
قلت: هذا الخبر من وضع البكريين وأكاذيبهم وهو غير مشهور ويعارضه الخبر المتواتر المسلم عليه وهو عزل أبي بكر بأمر الله سبحانه ونصب الإمام علي (ع) مكانه وتبليغه الآيات بوحده. ومن الواضح لزوم التمسك بالخبر المروي في الصحاح والمسانيد والمجمع عليه بين الرواة والمحدثين، وطرح الخبر الضعيف المعارض.
والنتيجة الحاصلة من هذا الخبر أن السن غير دخيل في نيابة رسول الله (ص) وخلافته، بل اتفاق العقلاء والنبلاء بلزوم العلم والتقوى في الإمام الذي يتعين لقيادة الأمة.
ولهذا قدم الله ورسوله (ص) عليا (ع) إذ كان أعلم الصحابة حتى قال رسول الله (ص) في حقه: علي باب علمي ومبين لأمتي ما أرسلت به من بعدي(33). فخصه دون غيره بهذه الفضيلة العالية والمنقبة السامية.
النبي(ص) بعث عليا سفيرا إلى اليمن
ولقد نقل كبار علمائكم وأعلامكم خبر إرسال النبي (ص) عليا (ع) إلى اليمن ليقضي بين أهلها ويرشدهم، وان النسائي وهو أحد أصحاب الصحاح عندكم، روى في الخصائص العلوية ست روايات بإسناده إلى الإمام علي (ع) بطرق مختلفة مضمونها أنه (ع) قال: بعثني النبي (ص) إلى اليمن فقلت: إنك تبعثني وأنا شاب، إلى قوم هم أسن مني ، فكيف أقضي بينهم؟ فقال (ص): إن الله سيهدي قلبك ويثبت لسانك ـ أي على الحق ـ(34).
ورواه العلامة الراغب الاصبهاني في محاضرات الأدباء، فيظهر من الخبر أن السن لا يكون ملحوظا عند الله ورسوله (ص) في مثل هذه الأمور يعني الحكم والقضاء بين الناس، وإنما الملحوظ العلم والعدالة والكفاءات الأخرى مثل الورع والنص من رسول الله (ص) الذي ينطق عن الله سبحانه.
علي عليه السلام هادي الأمة بعد النبي (ص)
وقد نص القرآن الحكيم في ذلك لعلي (ع) وصرح به النبي (ص) لما نزلت الآية الكريمة:
(إنما أنت منذر ولكل قوم هاد)(35).
فقال (ص): أنا المنذر وعلي الهاد، وفي رواية خاطب عليا (ع) وقال (ص): أنا المنذر وأنت الهادي وبك يهتدي المهتدون، هكذا رواه جمع من أعلامكم ومفسريكم منهم الثعلبي في تفسيره كشف البيان، ومحمد بن جرير الطبري في تفسيره، والعلامة الكنجي الشافعي في كفاية الطالب / باب 62 مسندا عن تاريخ ابن عساكر، والشيخ سلمان القندوزي الحنفي في ينابيع المودة / آخر الباب السادس والعشرين / رواه عن الثعلبي والحمويني والحاكم الحسكاني وابن صباغ المالكي، والعلامة الهمداني في مودة القربى، والخوارزمي في المناقب عن ابن عباس وعن الإمام علي (ع) وعن أبي بريدة السلمي روايات عديدة وبطرق شتى رووا باختلاف في الألفاظ وبمعنى واحد، وهو أن رسول الله (ص) قال: أنا المنذر، وخاطبا عليا فقال: وأنت الهادي وبك يهتدي المهتدون بعدي.
ولو كان هذا النص يرد في شان أي واحد من الأصحاب،لكنا نتبعه ونتمسك به، كما تبعنا عليا(ع) وتمسكنا به لوجود هذا النص الجلي وأمثاله في حق علي (ع) نطق بها النبي الكريم (ص)(36).
الفرق بين السياسة الدينية والدنيوية
ثم إن الشيخ عبد السلام قال: بأن عليا (ع) ما كان عارفا بإدارة البلاد ومن عدم سياسته حدثت الاضطرابات والحروب الدامية أيام خلافته بين المسلمين.
فأقول في جوابه: إن هذا الكلام تحريف للحقائق وتلبيس للوقائع، والشيخ إنما نقل كلام الأسلاف المعاندين والمعادين للإمام علي (ع) ولا أدري ما هو مرادهم ومقصودهم من كلمة السياسة ولا إدارة؟ فإن كانت السياسة والإدارة عندهم بمعنى الكذب والدجل والظلم والنفاق ومزج الحق بالباطل والتلبيس والتدليس ـ كما نرى أبناء الدنيا يرتكبونها لأجل الحصول على الحكم والسلطان ـ فإني أصدقكم بأن علي بن أبي طالب (ع) كان يفقد هذه السياسة والإدارة، لأنها بعيدة عن الدين والإسلام، أما إذا فسرنا السياسة بالإدارة الحكيمة المقرونة بالعدل والإنصاف بأن يساوي بين الرعية ويأخذ الحق من الظالم ويرده للمظلوم، ولا تأخذه في الله لومة لائم في إقامة الحدود وسد الثغور وتنفيذ الأحكام، فالإمام علي (ع) أعظم سياسي وأحكم إداري في الإسلام. ولقد يحدثنا التاريخ أنه لما بويع له بالخلافة عزل الولاة والحكام الذين كانوا من قبل عثمان بن عفان، وهم الذين ـ بسوء تصرفاتهم ـ سببوا ثورة المسلمين على خليفتهم عثمان فقتلوه.
وذكر المؤرخون أن ابن عباس أشار على ابن عمة أمير المؤمنين في معاوية فقال: ولّه شهرا وأعزله دهرا. وكذا المغيرة أشار عليه بذلك، ولكنه (ع) قال: لا والله لا أبقيه ساعة واحدة على ولايته، وما كنت أطلب النصر بالجور! فلو أبقيت معاوية وأمثاله على ولايتهم وأقررتهم على مظالمهم وجرائمهم، بم أجيب الله سبحانه؟ وكيف ألقاه في يوم الحساب؟!
وكان يقول (ع): لولا التقوى لكنت أدهى العرب، والله ما معاوية بأدهى مني ولكنه يغدر ويمكر. وقد تكرر منه (ع) هذا الكلام وشبهه كما في تاريخ الطبري، وفي العقد الفريد لابن عبد ربه، وفي شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد.
فكلام الشيخ بأن الاضطرابات والحروب التي وقعت أيام خلافة الإمام علي (ع) كانت من عدم سياسته وسوء إدارته وتدبيره، فغير صحيح وباطل، إذ من الواضح أن لتلك الحروب والاضطرابات أسباب وعلل أخرى.
أسباب الاضطرابات والحروب في خلافة الإمام علي (ع)
أولا: الوقايع والأحداث التي وقعت وحدثت بعد رسول الله (ص) كاستبداد القوم بالأمر من غير مشاورة الإمام علي والعباس وسائر رجال بني هاشم، وهجومهم على بيت الرسالة وإحراقهم الباب وضرب فاطمة (ع) حتى قتلوا جنينها المسمى محسنا، وسحبهم الإمام علي (ع) إلى المسجد ليبايع أبا بكر، ومنعهم حق أهل بيت النبوة من الخمس الذي عينه الله تعالى لهم في كتابه، هذه الأحداث الأليمة وأمثالها جرأت المنافقين والذين في قلوبهم مرض، الحاقدين على النبي (ص) وعترته الطاهرة، فأظهروا مكنونات صدورهم، والضغائن الكامنة في نفوسهم ولاسيما في عهد الإمام علي (ع) وخلافته التي كانت بعد أحداث قتل عثمان بن عفان، فجعلوا ذلك وسيلة وحجة لإيجاد الاضطرابات والخلافات بين المسلمين، فعملوا لك ما في وسعهم لشب نيران الإحن وإثارة الحروب والفتن، حتى صارما صار وحدث ما حدث.
ثانيا: كما قال هو (ع): ما ترك لي الحق من صديق. فإن طبيعة البشر كما قال الله سبحانه:
(أكثرهم للحق كارهون)(37) والإمام علي (ع) كان يعمل بالعدل ويحق الحق ويبطل الباطل، فما تحمله أكثر الناس وخاصة أبناء الدنيا والطامعين في بيت المال وحقوق الفقراء، ولاسيما الذين تعودوا في خلافة عثمان على نهب بيت المال واستملاك الأموال العامة والتصرف فيها واللعب بها، وهؤلاء كانوا يجدون بغيتهم عند معاوية فمالوا إليه ونصروه، والناس إلى أشباههم أميل.
ثالثا: فتشوا في التاريخ عن أسباب واقعة الجمل، وكيف حدثت؟ ولماذا؟ تجدونها أسباب دنيوية لا دينية، فإن طلحة والزبير أرادا ولاية البصرة والكوفة، حبا للرآسة والدنيا وقد قال رسول الله(ص) حب الدنيا رأس كل خطيئة.
وكان الإمام علي (ع) يعرف طلحة والزبير حق المعرفة ولم يجد فيهما الورع اللازم في الوالي
وكذلك ليست فيهم الكفاءات الأخرى، لذلك لم يتنازل الإمام عند رغبتهما ولم يلبي طلبهما(38) فذهبا إلى أم المؤمنين عائشة وكانت مستعدة لإعلان الخلاف على أمير المؤمنين فأثاراها وثارت وألبت الناس على أمير المؤمنين سلام الله عليه وسببت قتل المسلمين وسفك دماء الأبرياء المؤمنين! فهل بعد هذا يصح أن نقول: أن وجوب الجمل كانت لسوء تدبير الإمام علي (ع) وعدم سياسته! أم أنها كانت بسبب أطماع طلحة والزبير وأحقاد عائشة على الإمام علي(ع) وبغضها لآل محمد(ص)؟ ولا يخفى أنها بقتالها وإعلان مخالفتها لخلافة الإمام علي مهدت لمعاوية وعمرو بن العاص وأعطتهما الشرعية الكاذبة في مخالفتهما للإمام علي (ع) وقتالهما له.
نعم، والله هي التي أسست وشرعت مخالفة أمير المؤمنين (ع) وقتاله والحرب عليه. مع أنها كانت قد سمعت من النبي (ص) يقول: يا علي حربك حربي وسلمك سلمي، ويقول: إن الله قد عهد إلي أن من خرج على علي فهو كافر في النار(39).
إخبار النبي (ص) عن حروب علي (ع) بعده
ولقد روى أعلام العامة في كتبهم بأن رسول الله (ص) أخبر عن قتال علي (ع) للناكثين والقاسطين والمارقين، والمراد من الناكثين طلحة والزبير وجيشهما ، ومن القاسطين معاوية وابن العاص وأتباعهما، ومن المارقين الخوارج. وهذه الفئات الثلاثة كلهم كانوا بغاتا مستوجبين القتل.
وأما الذين ذكروا حديث رسول الله (ص) وإخباره عن الناكثين والقاسطين والمارقين، وأمره صلوات الله عليه الإمام علي (ع) بحربهم وقتالهم، فأكثر محدثي السنة وعلماء العامة منهم أحمد بن حنبل في المسند وسبط ابن الجوزي في التذكرة والعلامة القندوزي في ينابيع المودة، وأبو عبدالرحمن النسائي في الخصائص، ومحمد بن طلحة العدوي في مطالب السئول، والعلامة الكنجي الشافعي في كفاية الطالب / الباب السابع والثلاثون: في أن عليا (ع) قاتل الناكثين والقاسطين والمارقين، ولقد روى العلامة الكنجي في هذا الباب، بسنده المتصل بسعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال رسول الله (ص) لأم سلمة: هذا علي بن أبي طالب لحمه من لحمي ودمه من دمي وهو مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي؛ يا أم سلمة هذا علي أمير المؤمنين وسيد المسلمين ووعاء علمي ووصيي وبابي الذي أوتى منه، أخي في الدنيا والآخرة ومعي في المقام الأعلى، يقتل القاسطين والناكثين والمارقين. ثم قال العلامة الكنجي: وفي هذا الحديث دلالة على أن النبي (ص) وعد عليا (ع) بقتل هؤلاء الطوائف الثلاث، وقول الرسول (ص) حق ووعده صدق، وقد أمر(ص) عليا بقتالهم، روى ذلك أبو أيوب عنه وأخبر أنه قاتل المشركين والناكثين والقاسطين وأنه (ع) سيقاتل المارقين(40). " انتهى كلام الكنجي ".
ونحن نعتقد أن قتال الإمام علي (ع) مع هذه الفرق الثلاث كقتال رسول الله (ص) مع الكفار والمشركين.
الشيخ عبدالسلام: بأي دليل تعتقدون بهذا المعتقد علما بأن الذين قاتلوا عليا كرم الله وجهه كانوا مسلمين يشهدون بالتوحيد ويقرون بالرسالة ويعملون بالقرآن، ويصلون ويصومون؟!
قلت: دليلنا حديث رسول الله المشهور والمنشور في كتب أعلامكم ومحدثيكم مثل النسائي في
الخصائص صفحة 40 / طبع التقدم بالقاهرة / بسنده إلى أبي سعيد الخدري، والعلامة القندوزي في ينابيع المودة / الباب الحادي عشر نقل عن كتاب جمع الفوائد عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله (ص): إن منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله. فقال أبو بكر(رض): أنا؟ فقال (ص): لا. فقال عمر (رض): أنا؟ فقال (ص): لا ولكن خاصف النعل. قال: وكان أعطى عليا نعله يخصفها(41). للموصلي. " انتهى كلام القندوزي "
فالظاهر من هذه الروايات ما نعتقده نحن كما قلت، فإن حرب الإمام علي (ع) مع الناكثين والقاسطين والمارقين إنما كانت مثل حرب النبي (ص) مع الكفار والمشركين. إذ لو كانت هذه الطوائف الثالث من المسلمين لما كان رسول الله (ص) يأمر عليا وخيار أصحابه مثل أبي أيوب وعمار بن ياسر بقتالهم ومحاربتهم.
والحاصل من بحثنا أن الاضطرابات والحروب التي حدثت في خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) لم تكن بسبب سوء سياسة أبي الحسن (ع) وسوء تدبيره وإدارته كما زعم الشيخ عبدالسلام، وإنما كانت بسبب كفر المخالفين وأحقاد المنافقين وحسد الحاسدين. ولو يراجع نهج البلاغة وتطالع عهود الإمام علي (ع) إلى عماله ولا سيما عهده الذي كتبه إلى مالك الأشتر حين ولاه مصر، وكتبه إلى محمد بن أبي بكر وعثمان بن حنيف وابن عباس وغيرهم لأذعنتم أن الإمام علي (ع) بعد رسول الله (ص) أسوس الناس وأكيسهم وأحسنهم إدارة وأصحهم تدبيرا كما كان أورعهم وأتقاهم وأعلمهم بكتاب الله وتفسيره وتأويله وناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه ومجمله ومفصله وعامه وخاصه وظاهره وباطنه، وعنده علم الغيب والشهود.
الشيخ عبدالسلام: نرجو توضيح لنا معنى الجملة الأخيرة، فكيف يكون سيدنا علي كرم الله وجهه عالم الغيب والشهود؟ فهذا كلام مبهم وغريب ومخالف لعقائد عامة المسلمين.
قلت: المقصود من علم الغيب هو العلم ببواطن الأمور وأسرار الكون التي تكون خفية إلا على الأنبياء والأوصياء والأولياء الذين اصطفاهم ربهم و أعطاهم من علمه، كل على مقدار ظرفه ووعاء قلبه ولا شك أن خاتم النبيين (ص) وسيد المرسلين كان أعلمهم ومن بعده علي بن أبي طالب (ع) إذ كان تلميذه فعلمه كل ما كان النبي (ص) علمه من الله تعالى.
الشيخ عبدالسلام: ما كنت أتوقع من جانبكم أن تتكلموا بكلام الغلات وعوام الشيعة، لأنك كنت في المجالس السالفة تتبرء من الغلات ومما يقوله عوام الشيعة وجهالهم.
قلت: إن كلامي لم يكن غلوا ولا مخالفا للقرآن الكريم ولكنك سقطت في الشبهة التي سقط فيها أسلافكم وإذا كنت تمعن النظر وتدقق الفكر في كلامي، ما رميتني بالغلو والجهل.
لا يعلم الغيب إلا الله سبحانه
الشيخ عبدالسلام: إن كلامكم واعتقادكم يخالف نص الكتاب الحكيم وصريح القرآن الكريم إذ قال سبحانه وتعالى: (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين)(42).
هذه الآية تدل على أن علم الغيب يختص بالله عز وجل، وكل من يعتقد بأن غير الله تعالى يعلم
الغيب فقد غلى وأشرك المخلوق في علم الخالق ووصف العبد بصفة الله الواحد الأحد.
وإن كلامكم بأن عليا كرم الله وجهه كان عنده علم الغيب هو غلو في حقه إذ فضلتموه على رسول الله (ص) وقدمتموه عليه لأنه (ص) كما قال له الله العزيز: (قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله، ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير
لقوم يؤمنون)(43).
وقال تعالى في سورة هود / 31: (ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ).
وفي سورة النمل / 65: (قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون).
فإذا كان رسول الله وخاتم النبيين (ص) بصريح القرآن الحكيم لا يعلم الغيب، فكيف تقولون بأن عليا كرم الله وجهه كان عنده علم الغيب؟ والله تعالى يقول: (وما كان الله ليطلعكم على الغيب)(44).
قلت: نحن لا ننكر هذه الآيات الكريمة بل نعتقد ونتمسك بها، ولكنك حفظت شيئا وغابت عنك أشياء.
فلقد ذكرت الآيات ولم تتدبر فيها ولم تنظر إلى الآيات الأخرى التي تصرح بأن الله تعالى يتفضل على بعض عباده من علم الغيب الذي عنده.
الله سبحانه يفيض من علمه على من يشاء
إن العلم على قسمين: ـ علم ذاتي وهو علم الله تعالى، وعلم عرضي واكتسابي وهو علم البشر ـ وهذا على قسمين أيضا: علم تعليمي وهو علم التلميذ يأخذه من معلمه وإن كان بإرادة الله ومشيته فهو المعلم الحقيقي لقوله تعالى: (خلق الإنسان * علمه البيان)(45).
وقوله تعالى: ( فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون)(46).
القسم الآخر: هو العلم اللدني، وهو علم يلقيه الله سبحانه في قلب من يشاء وهو قوله تعالى: (فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما)(47).
وكذلك العلم الذي أفاضه على آدم (ع) وألقاه في قلبه مرة واحدة، بقوله تعالى: (وعلم آدم الأسماء كلها )(48).
وهذا العلم يحصل من غير الطرق العادية أي بغير معلم ومدرس ولا يحتاج إلى كتاب وقلم وقرطاس.
الشيخ عبد السلام: هذه الآيات تشير إلى مطلق العلم ولكن علم الغيب مستثنى من هذا العلم، بدليل الآيات التي تلوتها آنفا، وقد قالوا: إن القرآن يفسر بعضه بعضا.
قلت: بدليل أن القرآن يفسر بعضه بعضا، فإن الآيات التي تلوتها في انحصار علم الغيب بالله تعالى تكون من القسم العام، وقد خص لأنه مناسب مع الله تعالى بعض عباده الذين اصطفى، بقوله عز وجل: (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحد * إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا * ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا)(49).
وأما الآية الأخيرة التي تلاها الشيخ عبدالسلام فإنه بترها ولم يتممها ليحصل غرضه، وإن مثله كمن يبتر كلمة التوحيد ـ لا إله إلا الله، فيتلفظ بأولها ويترك آخرها، وكذلك هذه الآية الكريمة فإن أولها يدل على معتقد الشيخ، وإذا تلوناها إلى آخرها فنجدها تفند معتقد الشيخ وتؤيد معتقدنا وهي
كما في سورة آل عمران / 179: (وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء فآمنوا بالله ورسله وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم) ولا يخفى على أهل العلم معنى الاستدراك في الآية الكريمة، والقاعدة العربية: الإستدراك بعد النفي إثبات كما أن الاستثناء بعد النفي في كلمة لا إله إلا الله إثبات للتوحيد. وكذلك الاستثناء في الآية التي تلوتها آنفا من سورة الجن:
(عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول) جاء الاستثناء بعد الجملة النافية، فهو إثبات أي: يظهر على غيبه من ارتضى من رسول.
وفي آية أخرى يصرح تعالى بأنه يوحي إلى النبي (ص) ويعطيه من أنباء الغيب، قوله تعالى: (تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا)(50) وقوله تعالى:
(وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا)(51).
ثم إذا لم تعتقد بمعتقد الشيعة بأن الله تعالى يفيض من علم الغيب الذي عنده على بعض عباده الصالحين من الأنبياء والأولياء، فكيف تفسر قول عيسى بن مريم (ع) في سورة آل عمران/ الآية 49: (وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين) فإخبار الأنبياء والأولياء بالمغيبات فهو من آيات الله تعالى ولا يخفى أن الله سبحانه لا يعطيهم العلم المطلق بجميع المغيبات وإنما يطلعهم على الغيب حسب المصلحة والحكمة وعند اقتضاء الضرورة، ولهذا المعنى تشير الآية الكريمة: (ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء)(52).
الخلفاء الإثنا عشر عندهم علم الغيب
الشيخ عبدالسلام: لو فرضنا صحة هذا الكلام، فإنه يختص بالأنبياء، فما هو الدليل على تعدي علم الغيب من رسول الله (ص) إلى سيدنا علي كرم الله وجهه؟ وإذا كان علي مثل رسول الله (ص) يطلع على الغيب، فيلزم أن نعتقد ذلك في الخلفاء الراشدين أيضا لأنهم قاموا مقام النبي (ص) وتسلموا مسؤوليته في أمته من بعده.
قلت: نعم يلزم أن يطلع خلفاء رسول الله (ص) على الغيب أيضا، لأنهم قاموا مقامه وألقيت مسؤولية توجيه الأمة وإرشادهم بعد النبي (ص) على عواتقهم.
ولكن من هم خلفاؤه؟ أهم الذين لقبوا بالراشدين، أم الذين عرفهم رسول الله (ص) للأمة بقوله: خلفائي بعدي إثنا عشر؟ وفي بعض الروايات نص عليهم بأسمائهم وألقابهم وهم الذين نعتقد نحن الشيعة بإمامتهم ونتمسك بقولهم ونلتزم بطريقتهم ومذهبهم(53).
أما الذين سميتموهم أنتم وأباؤكم بخلفاء رسول الله (ص) فإنهم كانوا يجهلون كثيرا من الظواهر فكيف بعلم الغيب؟! ولقد رويتم في كتبكم أن الخلفاء الثلاث كثيرا ما كانوا يراجعون الإمام علي (ع) أو غيره من الصحابة في الأحكام والمسائل الدينية التي كانت ترد عليهم، ولا سيما عمر بن الخطاب الذي قال في أكثر من مورد: لولا علي لهلك عمر، ولا أبقاني لمعضلة ليس لها أبو الحسن، كما نقلنا بعضها من كتب أعلامكم ومحدثيكم.
وأما سؤالكم عن دليلنا على أن عليا (ع) كان يحظى بعلم الغيب، فالأحاديث المروية في كتبكم عن رسول الله (ص) في علم علي (ع)، أدل دليل على كلامنا ، منها:
حديث النبي (ص): أنا مدينة العلم و علي بابها ومن أراد العلم فليأت الباب.
الشيخ عبد السلام: لم تثبت صحة هذا الحديث في مصادرنا وعند أعلامنا، فهو موضوع، ولقد عده أكثر علمائنا من الآحاد الضعاف.
الإمام علي (ع) باب مدينة علم رسول (ص) بنص أحاديثكم
قلت: إني لأتعجب من كلام الشيخ إذ يضعف هذا الحديث الذي عده كثير من علماء العامة من المتواترات، ونقله كثير من أعلام أهل السنة في كتبهم وأقروا بصحته منهم:
السيوطي في جمع الجوامع، وابن جرير الطبري في تهذيب الآثار والسيد محمد البخاري في تذكرة الأبرار، والحاكم النيسابوري في مستدرك الصحيحين، والفيروز آبادي في نقد الصحيح، والمتقي في كنز العمال، والكنجي الشافعي في كفاية الطالب، وجمال الدين الهندي في تذكرة الموضوعات، وقد قال: فمن حكم بكذبه فقد أخطأ.
والأمير محمد اليماني في الروضة الندية، والحافظ أبو محمد السمرقندي في بحر الأسانيد وابن طلحة العدوي في مطالب السئول، وغيرهم من أعلامكم الذين حكموا بصحة حديث: أنا مدينة العلم... الخ.
ولقد وصل هذا الحديث إلى علماء الدين من طرق شتى وأسناد كثيرة متصلة بالصحابة والتابعين منهم: أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) وأبي محمد الحسن السبط (ع)، وحبر الأمة عبد الله بن عباس، وجابر بن عبد الله الأنصاري، وعبد الله بن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وعبد الله بن عمر، وأنس بن مالك، وعمرو بن العاص من الصحابة.
والامام السجاد علي بن الحسين (ع) ومحمد بن علي الباقر (ع) وأصبغ بن نباتة، وجرير الضبي، وحارث بن عبد الله الهمداني الكوفي، وسعد بن طريف الحنظلي، وسعيد بن جبير الأسدي، وسلمة بن كهيل الحضرمي، وسليمان بن مهران الأعمش ، وعاصم بن حمزة السلولي، وعبد الله بن عثمان القاري المكي، وعبدالرحمن بن عثمان ، وعبدالله بن عسيلة المرادي، ومجاهد بن جبير أبي الحجاج المخزومي، من التابعين.
وأما العلماء الأعلام والمحدثين العظام الذين أخرجوا هذا الحديث في كتبهم ومسانيدهم، فكثير جدا ولا يسعني أن أذكرهم كلهم، ولذا أكتفي بمن يحضرني أسماؤهم، حتى يعرف جناب الشيخ زيف كلامه، وأرجو أن لا يتبع قول أسلافه بعد سماع مصادر الحديث، ومعرفة صحته وتواتره عند أهل الحديث. وأطلب منه بعد هذا أن لا يتكلم من غير تحقيق.